*مقدمة:
إن من معالم التفقه في الدين التعرف على القواعد الفقهية الكلية التي تضبط الفروع الجزئية العملية، و قد نبه العلماء إلى أهمية الاعتناء بهذه القواعد،و بينوا فائدتها على طالب العلم ،يقول القرافي: “وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع،وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه و يشرف، و يظهر رونق الفقه و يعرف، و تتضح مناهج الفتاوى و تكشف.ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، و اتحد عنده ما تناقض عند غيره“. ومن أهم هذه القواعد “قاعدة الأمور بمقاصدها” حيث تعد واحدة من أهم القواعد الفقهية الخمس التي يرجع إليها أكثر مسائل الفقه، و سنتناول هذه القاعدة من خلال التقسيم التالي :
المبحث الأول :شرح القاعدة
المطلب الأول: تعريف القاعدة لغة و اصطلاحا:
أ-الأمور لغة و اصطلاحا:
الأمور: جمع أمر، و الأمر استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، و هو لفظ عام للأفعال و الأقوال.
و يأتي الأمر بمعنى الحال و الشأن و الفعل ، قال تعالى *وما أمر فرعون برشيد *أي حاله وقال تعالى *ليس لك من الأمر شيئا* أي الشأن و الحال.
ب-المقاصد لغة و اصطلاحا:
المقاصد:جمع مقصد بفتح الصاد من القصد ،وهو إتيان الشيء،نقول:قصدته و قصدت له، و قصدت إليه و المقصد: الوجهة .
المطلب الثاني:المعنى العام للقاعدة
إن قاعدة “الأمور بمقاصدها”على وجازة لفظها، وقلة كلماتها تعتبر من جوامع الكلم،فهي ذات معنى متسع يشمل كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل،ومعنى هذه القاعدة ما ورد عن الإمام الشاطبي حيث يقول:” إن الأعمال بالنيات ،و المقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات و العادات، و الأدلة على هذا المعنى لا تنحصر و يكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة و بين ما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب، وفي العادات بين الواجب، والمندوب،و المباح ،و المكروه، و المحرم،و الصحيح ،و الفاسد و غير ذلك من الأحكام،و أيضا العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، و إذا عرى عن القصد لم يتعلق به شيء منها، كفعل النائم و الغافل و المجنون” .
ومن نفيس كلام ابن القيم قوله :”النية روح العمل و لبه و قوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها، وهما قوله:” إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى،ثم بين
في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا مانواه ، وهذا يعم العبادات و المعاملات و الإيمان والنذور،و سائر العقود،و الأفعال” .
المبحث الثاني:أصل القاعدة
المطلب الأول:أصل القاعدة من القرآن الكريم
قال الله تعالى * وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *النساء: 100.
مهاجرًا؛ أي: مريدًا للهجرة، وعلى إرادته يترتب الأجر.
قال تعالى: *وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * النساء: 114.
وقال تعالى * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ * البقرة: 265.
أراد بفعله رضوان الله؛ فالأجر والمثوبة بالنية.
وقال تعالى * وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *البقرة: 225.
كسب القلب هو الإرادة والعزم على شيء.
المطلب الثاني:أصل القاعدة من السنة النبوية
قوله صلى الله عليه و سلم:”إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى.” حديث صحيح.
و كذلك ما ورد في صحيح البخاري عن أبي موسى,قال:جاء رجل الى النبي صلى الله عليه و سلم،فقال:يا رسول الله,ما القتال في سبيل الله؟فان أحدنا يقاتل عصبا، و يقاتل حمية،فرفع إليه رأسه،فقال:”من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا،فهو في سبيل الله” .
وللنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: “من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى“.
وما جاء في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه“انك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها,حتى ما تجعل في فم امرأتك” .
المبحث الثالث:ما تفرع عن هذه القاعدة
يندرج تحت هذه القاعدة قواعد كثيرة، من أهمها:
-قاعدة: إنما الأعمال بالنيات،وهذه القاعدة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ويندرج تحتها قواعد فرعية كثيرة، سنفصلها تحت عنوان: القواعد في النية.
المطلب الأول:تعريف النية لغة و اصطلاحا
النية في اللغة مصدر الفعل نوى، يقال نويت نية أي عزمت .
وفي الاصطلاح: ماذكره البيضاوي:”انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر حالا،أو مآلا، و الشرع خصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء وجه الله تعالى وامتثالا لحكمه” .
المطلب الثاني:بعض القواعد في النية
*القواعد في النية كثيرة،منها :
–قاعدة: إن المنوي من العمل إما أن يكون عبادة محضة لا يلتبس بالعادات، و إما أن يكون جنسه مما يشبه العادات.
–قاعدة: القربات التي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية الإضافة لله تعالى.
–قاعدة: يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد.
–قاعدة:لا ثواب و لا عقاب إلا بنية.
المطلب الثالث:بعض القواعد في العقود
اختلف في صيغة هذه القواعد عند فقهاء المذاهب الأربعة، فالحنفية و المالكية صاغوها بالأسلوب الخبري،لأن معناها و مدلولها متفق عليه عندهم، و أما الشافعية و الحنابلة فقد أوردوها بالأسلوب الإنشائي الذي يشير إلى الاختلاف.
*صيغ القاعدة:
–عند الحنفية و المالكية:العبرة في العقود بالمقاصد و المعاني لا بالألفاظ و المباني.
-وعند الشافعية:هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟
–وعند الحنابلة:إذا وصل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها،فهل يفسد العقد بذلك؟ أو تجعل كناية عما يمكن صحته على ذلك الوجه؟
المطلب الرابع:قواعد أخرى
وهذه القواعد مما ذكر في كتاب المعونة للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي، ومنها:
–قاعدة: الأعمال بالنيات.
–قاعدة:إنما لكل امرئ ما نوى.
–قاعدة:لا تنوب نية الأضعف عن نية الأقوى.
– قاعدة:القرب لابد فيها من إحضار النية.
– المبحث الخامس : مستثنيات القاعدة
إذا كانت القواعد الفقهية قواعد أغلبية وأكثرية ، فالإستثناء لايقدح في حجيتها ومن هذه المستثنيات :
– الهازل والمستهزئ فإنهما وإن كان غير قاصدين حقيقة ما ينشئانه من عقود وتصرفات إلا أنهما يعاقبان بلزوم عقودهما ، لأن الهزل والاستهزاء ليسا من الأعذار المسقطة للتكليف بل هما من منهيات الشرع،كما أن نكاح الهازل وصريح طلاقه ورجعته واقع بإجماع العلماء ، وهو المحفوظ عن الصحابة والتابعين أخذا من الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :* ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، النكاح، والطلاق ، والرجعة *
-لو قال شخص لآخر : بعتك هذا الشيء من غير ثمن ، كان هذا البيع باطلا ، ولا يعتبر هذا العقد هبة ، لأنه لم يفصح عن مراده ، بل يفهم منه في الغالب أنه أراد التسامح في البيع بأي ثمن يدفعه المشتري، فهو لايريد أن يهب له شيء بلا ثمن ، ولكن أراد أن يجامله ، أو يفوضه في تقدير الثمن بدافع الحياء والمودة .
خاتمـــــة:
إن قاعدة الأمور بمقاصدها تتوقف عليها جميع التصرفات والأفعال والمعتقدات بحيث إذاكانت النية وراء هذه التصرفات صالحة وحسنة ترتب عليها آثار الشرعية المحمودة ، بحيث قد يخسر الإنسان جميع أعماله وتصرفاته إذا كانت نواياه سيئة وباطلة ولهذا كتب فيها العلماء كثيرا وأشادوا بأهميتها في جميع أفعال وتصرفات الإنسان المسلم لكي يصحح الإنسان المسلم نيته ويجعل ما يفعله خالصا لله تعالى حتى يحصل الثواب والمنفعة ويعود نفعها على الفرد والجماعة .
بقلم: ياسر أبوعمار