بقلم : محسن الإدريسي
مما يتراى لي أن الفن من المواضيع المهمة التي لا يجب ان يغفل عنها صاحب الرسالة، فبالموازاة مع الفكر الذي يروم إقناع العقل بمقاربة المنطق، و كذلك السياسة التي تسعى لتحقيق المشروع و مقاربة العدل الذي هو برهان في حد ذاته على وجود القيمة و أصل لكل الفضائل التي تتبع وجوده، بالموازاة مع ذلك بل في دواخل الذات الإنسانية يقبع الذوق الفني بطابعه الملامس للقلب – المعنوي لا المحسوس باعتباره أرفع حاسة عند الانسان و أرقاها- سواء كان مكتوبا او مرئيا او مسموعا أو في أحد تجلياته الأخرى، فإنه يختصر كل المسافات ليستقر في موضع “الفطرة” عند الانسان الذي قلّت عنده الحواجز شرط أن يكون صافيا من مصدره، نابعا كذلك من عمق صانعه.
ما موضوع “الفطرة” أو “حاسة القلب” الذي ذكرته إلا التفسير الوحيد لتعلق الانسان بكل عمل فني جميل دون أن يكون مدركا لخصائصه أو دارسا لتفاصيله، إلا أن يجد فيه ذاته و هويته و مواجيده، و إلا لا يكون حتى قادرا على إنتاجه أصلا و هو فاقد للحاسة المادية القادرة على إدراكه كحالة “بتهوفن” مثلا الذي ألف أشهر أعماله الموسيقية و هو فاقد لحاسة السمع.
لا يختلف معي اثنان في ما تحمله أشهر الأعمال الفنية في العالم من روح صاحبها و ما تقدر على ايصاله من مواجيده معاناة أو سرورا او فيض محبة أو تأملات صادقة، حيث أن الفن لا يكون فنا إلا بفردانيته فإن أصبح استنساخا فقد قيمته، و إن أصبح تحت الطلب فقد قيمته، بل و لا يكون فنا أصلا كلما جاء بما يحط من قيمة الإنسان، حتى أن قيمته لا تتجلى في قالبه المادي ، حيث أن الفن ظاهرة بدأت في العصور الأولى من ظهور الانسان و قبل أن تتطور عنده الوسائل و الاليات التقنية، و رغم ذلك تكاد لا تقل تلك الأعمال الفنية ما بقي منها -الرسم على جدران الكهوف مثلا- قيمة عن الاعمال الحاضرة، فبذلك يكون العمل الفني أقرب طريق من لب إنسان إلى لب إنسان اخر حيث أنه يعبر عن جزء لا يفنى و لا يبلى فيه الانسان ، و كله هاته الأعمال حسب نظري وسائل مختلفة ليعبر الإنسان عن أشواقه و حاجته لوجود الإله الكامل المتفرد الصفات، أو لتعبّر عن غربة الانسان في هذا الكون مهما تيسرت معه وسائل رغد العيش، أو تعلقه بأمل غامض مهما خاض في هذه الحياة من الأهوال و المصائب، و من الهاذمات و المفرقات،و ثورته على المفارقات التي يراها و يعيشها، و تخليده للملاحم التي عاشها، و كذلك كونه وسيلة تظهر بحثه الدائم عن الحقيقة و السعادة و الجمال المطلق.
كثيرا ما يكون عرض بعض الأعمال الفنية على التحليل العقلي حائلا دون إدراك حقيقتها و معناها و مجمدا لحاسة الذوق عند الإنسان، وهذا في الحقيقة متطابق تماما مع حالة الإيمان على مستوى الدين، باعتباره قبل أن يكون تحليلا عقليا فهو حالة وجدانية يكون فهم مدركاته و مقتضياته العقلية و نهج مسلكه العملي مكملا فقط لما سلم به القلب -باعتباره الجزء الماورائي المتجزء عن الطبيعة في الإنسان-
دائما ما يُرى ازدهار الأعمال الفنية مع ازدهار المجتمعات التي تؤمن بوجود الله و حياة بعد الموت و المنفتحة على العالم، كأجزاء مهمة من تاريخ المسيحية و الإسلام و الديانات الشرقية القديمة كذلك، و العكس تماما في المجتمعات المادية الملحدة ك”الإتحاد السوفياتي” مثلا الذي قتل ظاهرة الفن بل و حرّم الكثير من الأعمال المشهورة و منعها من الإنتشار كروايات “دوستويفسكي” مثلا و أقصى جميع الأعمال غير الآلية منها التي تمجد النظام الحاكم و على نفس المنوال في الصين الشيوعية الماوية، و على العموم ما يصبح صناعة العمل الفني صناعة فاسدة مفسدة في جل المجتمعات التي تحكمها أنظمة مستبدة.
قد يتّضح للوهلة الأولى أن العلم و الفن يقفان على ضفتين متقابلتين لا قنطرة بينهما، مبدئيا صحيح، العلم معتمد على الطبيعة و العقل أما الفن فهو مستمد من “الماوراء” أو “القلب”، و لكن حسب رؤيتي مذا لو كانت الطبيعة بقدر ما هي قابلة للتفسير حسب الإمكان بالمعادلات الرياضية و الحالات الفيزيائية الكيميائية أو الوظائف البيولوجية، فهي كذلك متناسبة تماما مع المعيار الذوقي للإنسان، فهل رأيتم على سبيل المثال أحدا يشكو من ضجيج صوت أمواج البحر؟ أو من نور الشمس و حركتها بين الليل و النهار، أو يمل حتى من مشاهدة المشهد اليومي للشروق أو الغروب؟ أو يرى مثلا نشازا في ألوان النباتات و تناسقها؟ و هلمّ جرا من عندك، و لذا فالمفترق بينهما لا يكون إلا بالغاية المرجوة منهما و إلا فمتتالية “فيبوناتشي” الرياضية تجمع بين التوصيف الحلزوني للمجرات و النغمة الكاملة في الموسيقى، فهل يكون الأصل منهما مشتركا؟
نعم! فربما كان حب عالمنا الشهير “اينشتاين” لعزف الكمان و الإستماع العميق للموسيقى مساعدا له في بلورته لنظرتي “النسبية العامة” و “النسبية الخاصة” حول بنية الكون و الزمن، حيث كان يعتبر هذا الأخير موسيقى “موزارت” انعكاسا للجمال الكامن في الكون ذاته، و حيث كان إطلاقه لعنان خياله و شاعريته أساسا لتفكيره الذي يتبعه بالحسابات الرياضية.
عودة للمقصد، فبالنسبة لحامل الرسالة المحمدية، ما جمال الفن إلا جدول يتدفق من نبع ماء النبوة الصافي و الكتاب المنزَّل، فلو كان معنا وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ما احتجنا إلى رسم الرسوم، و كم ممّن أسلم فقط برؤية وجهه الكريم كالصحابي “عبد الله بن سلام” ، و لو كان معنا صوت تلاوته ما غنينا الأمداح و رتّلنا التراتيل، فكم ممّن أسلم له القياد بمجرد سماع آيات كريمة من الكتاب المنزل عليه بتلاوته، او قرأها مكتوبة كأمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” و قد كان ما تعلمون، و لو كان معنا كفّه الشريف على صدر أحدهم ما احتاج الامر كثير جدال و مصارعة، و القصص في السيرة كثيرة عن من تغير حاله في لحظة بعد لمسة كف على الصدر أو مصافحة و غيرها من الأحوال، و لكن سنة الله في كونه أن خلق الحق و الجمال و جعل لمعرفته و السير على دربه أسبابا يكون من سعادة المبلِّغ و المتلقي أن توافق مشيئة الله سبحانه و تعالى فيكونا من الفائزين.
كما لا يقتصر الفن على أن يكون تجريديا بل يخدم بطريقته الحرة كذلك الفكر المتزن و القضية الإنسانية العادلة، و بل و أنه لا يكتمل حتى يجمع بين جمال القالب و مضمون الرسالة، ليكون بذلك ولج المداخل جميعها لتحقيق الغاية المرجوة من إحياءه للفطرة و تبليغه للرسالة، و تحقيق جزء مهم كذلك من الحضارة التي بقدر ما تأسس على العلم و المعرفة و الموارد و القوة فهي تأسس كذلك بالضرورة على الثقافة التي تعكس القيم و المبادئ العليا التي يجتمع عليها الناس، و التي يصعب اختزالها في قانون مكتوب أو بطاقة هوية، بل تتجلى بقوة في الأدب و الموسيقى و الخطّ و المعمار و الفن الساخر، بل و حتى في ثقافة الأكل و اللباس و المناسبات الاجتماعية و غيرها، لتصبح نسيجا متشابكا متداخلا، حيث يكون العمل الفني أكثر تحقيقا لقيمته الذاتية و أكثر تأثيرا عندما تتم مشاركته مع الاخرين، و أرقى و أعلى إن كانت غايته و منتهاه أن يعكس عن طريق النور النبوي و البيان القرآني، قيم المحبة و الرحمة و العدل و الكرامة و الحرية..، مجيبة عن معاني الحيرة و اليأس و الضياع..، و التي تُمكِّن الإنسان من إدراك معنى وجوده و التشوف للسعادة الأبدية و الجمال و الجلال الإلهي.
ختاما لم تكن بذرة مقالي هذا إلا من وحي عمل فني رائع أخاذ، فتقبلوا مني هاته الكلمات المتعثرة.