بقلم الطالبة شيماء زرايدي
8 مارس، 2022
يا نور الفجر، يا قبلة الصباح، يا روح المساء، يا عطر المطر، يا زهرة الحياة، يا جنة الأرض.. تحت ما تراكم من أنقاض الدنيا، بين نجاح وفشل، خيبات وآمال، تعثرات وعزمات، كلنا يملك وطنا لا يخذله، وطنا يحميه دائما، وطن يحتويه رغم كل تناقضاته وتقصيره، وطن يبكي بين يديه دون انكسار؛ إنه قلب الأم .
حقا تخونني الكلمات ويشل لساني وتخنقني العبرات، كلما رأيت خطوط العمر تزين وجنتيك، وكلما رأيت تعب السنين يذهب ببعض صحتك، يا تاجا أفتخر به بين الخلائق.
ها قد كبرتُ يا أمي، وكبر الشبه بيننا؛ صرت أستيقظ باكرا وأنام باكرا، صار الزحام يخنقني والكلام يرهقني، أصبحت أحس لذة الشاي الذي لا أحسن صنعه كما تفعلين، أصبحت أعشق الهدوء والسكون ورائحة الأعشاب.. كبرت يا أماه وصار الحمل ثقيلا.. ما عدت تلك التي تنام وهي تفكر وتدبر كيف ستقنعك لتخرج للعب..
أماه أضحى العالم مرعبا؛ الحياة بالكاد ملونة ﻭﺍﻟﻜﻞ ﻣﻬﻤﻮﻡ.. أﺷﺘﺎﻕ ﺗﻮﺑﻴﺨﻚ ﺍﻟﻌﻔﻮﻱ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ، فاﻷﻳﺎﻡ ﺗﻌﺎﺗﺒﻨﻲ بلا رحمة.
يقول جبران خليل جبران: ”الأم هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنوّ والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسه، ويداً تباركه، وعيناً تحرسه”.
صدق خليل جبران، نعم لم تكوني أما عادية؛ ففي كل مرة تعِدّ الخيبات عدتها الموحشة ضدي كنت أختبئ خلف ظهرك، فأشعر بالقوة والطمأنينة.. وعندما أصيب نجاحا أنتظر رؤية انعكاس بهجتي في عينيك، فهما أكثر ما يهمني، أستظل بك من حر الأيام وأتلحف بك من برد الحياة.. أفرح عندما تبتسمين، وكيف لا أفعل وأكف أمي مرفوعة لي؟
ولأن الأم هي البطلة الحقيقية التي تقاوم الحياة من أجلنا، فإن برها لا ينبغي أن يكون مناوبات وظيفية بين الإخوة، بل مزاحمات على أبواب الجنان؛ “جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يَسْتَأْذِنُهُ في الجِهَادِ فَقالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ” (1).
ضحكة الأم والأنس بها من نعيم الدنيا المعجل، كل شيء يتغير إلا قلب الأم، ومن صور البر الكبرى بها أن نكون هينين لينين صالحين، فلعلنا نصيب بحسن خلقنا وتربيتنا دعاء الناس لأمنا والثناء عليها.
وللأم دين يستحيل سداده مهما فعلنا، برها دِين ودَين؛ فالأولى ترتقي بك إلى أعالي الجنان والثانية يردها لك أبناؤك، إذ بر الوالدين قصه نكتبها نحن ويرويها لنا أبناؤنا، فلنحسن الكتابة.
وبر الأم والأب عبادة تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، فقد جعل حقهما في مرتبة تالية لحقه عز وجل، قال تعالى: وقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (الإسراء، 23).
خلاصه القول؛ الأم هي الحب، هي جنة الدنيا والآخرة، هي المعلمة الدائمة؛ وكل المعارف، مهما تعددت الشواهد، بعض فتاه موائدها.
جاء رجل اسمه جاهمة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: هل لَكَ مِن أمّ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها) (2).
فاللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ، عَالمَ الغَيْب وَالشَّهَادةِ، ربَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سألت به أعطيت، أن ترفع درجات أمهاتنا وآبائنا. ونوصيك يا اللّٰه بقلوب أمهاتنا خيرا، اللهم ارحمهن حيات وميتات، وارزقهن خيري الدنيا والآخرة، وقهن عذاب القبر، وحرم أجسادهن على النار، واجعلهن ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واسقهن شربة هنيئة من حوض نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تحرمهن النظر في وجهك، يا كريم.
وكل عام وأنت بخير أمي الحبيبة.
(1) أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549). عن عبد الله بن عمرو.
(2) رواه النسائي (3104).