لطالما كنت مولعا بمشاهدة سلسلة كونان في طفولتي،كانت تعجبني طريقة ذلك الطفل في حل الألغاز و فضح المجرمين،كنت أتأمل كيف كان المحققون يأخذون بآرائه رغم صغر سنه،و كيف كان المحامون لا يجدون حرجا في استشارته في سبيل تحقيق العدالة، كنت أخبر أبي بعد كل حلقة أني عندما أكبر سأصبح شرطيا أو قاضيا، لكي أفضح المجرمين وأحقق العدالة و كان أبي يبتسم ممررا يدييه الدافئتين بين خصلات شعري،و يجيبني “إن شاء الله”، لم أكن أعرف سر تلك الإبتسامة الساخرة، لم أكن استوعب آنذاك سر ذلك الصوت الممزوج بالحسرة عند ترديده” إن شاء الله”.
مرت السنوات… وكبر ذلك الطفل وصار شابا، انا اليوم طالب،عرفت سر ردة فعل أبي فهمت سبب ذالك الصوت الحزين،أنا اليوم أبتسم أيضا ابتسامة ساخرة كلما تذكرت ذلك الحلم الكبير من ذلك الطفل البريء. كبرت وتعلمت، علمني وطني أن كونان مجرد سلسلة كرتونية و بأن العدل لا وجود له في ظل الفساد، وأن الظلم يسود تحت عباءة الاستبداد، علمني وطني كم كنت مخطئا ساذجا و بريئا..
أنا اليوم طالب بالجامعة،لكني لست في الجامعة الآن،لست في قاعة الدرس ولا في مكتبة الكلية؛ أنا في السجن ! أنا طالب معتقل! لم أتخيل يوما بأني بدلا من أن أحارب لأخلص وطني من المجرمين سيحاربني وطني و سيدمر عزيمتي و إرادتي و يسلب مني حقوقي ويطالبني بالصمت, لم أكن أتوقع بأني عندما سأعلن رفضي وأطالب بحقي سأجد نفسي في السجن محكوما ب 3 سنوات!! بتهمة أنا منها بريء براءة الذئب من دم يوسف.. لم أتخيل يوما بأني سأكون غريبا في وطني، لم أتوقع يوما بأن بلدي الحبيب سيعتبرني مجرما لأني طالبت بحقي، كيف لهذا الوطن الذي يرمي بأبناءه في السجن ظلما و عدوانا بأن يسمى وطنا؟! كيف سيرفف ذلك العلم فوق تلك المدرسة بعد الآن؟ كيف سيحتفل الناس بأعيادهم وأمي مكلومة؟ كيف سأرفع علم بلدي بإنجازاتي وأبحاثي و قد حطمني هذا البلد و دعس على أحلامي؟ كيف سنستعيد الثقة بوطن ظالم حارب كل ما فينا من أمل..
كنت أسمع أخبار طلبة فلسطين فأتحسر وأشفق على حياتهم، كنت أسأل نفسي كيف لهم أن يدرسوا و يتفوقوا ؟ و في أية لحظة يمكن أن يعلن العدو الحرب على البلاد !! في أي لحظة يمكن أن يقصفوا بقنابل المحتل، أما اليوم فإني أشفق على نفسي أيضا و على أبناء بلدي، فلا فرق بيننا و بين أبناء فلسطين! يحاربون محتلا غاصبا للأرض منذ سنين، ونحارب استبدادا تجذر في الوطن عبر الأجيال، استبدادا اغتصب الحقوق، وحارب القيم، وباع الوطن.. سيسجل التاريخ ذلك اليوم الذي تخلى فيه وطن عن أبنائه، ذلك اليوم الذي تجند فيه رجال “الأمن”و رجال”العدل” ليشهدوا زورا و ليحكموا ظلما.
لن أنسى تلك اللحظة ماحييت،كنت اقنع نفسي أن مهما بلغ خبث “المخزن” ببلدي، لن يصل الأمر للحد الذي يسجن فيه طالب علم،لم يقترف ذنبا سوى أنه طالب بحقه، كنت متفائلا في تلك اللحظة، حتى نطق القاضي بالحكم علي و على 3 من اصدقائي… لم أستوعب ! لم أصدق ! فبحتث في كتب القانون، و استظهرت ما أحفظ من فصول في قانون بلدي، لأجد فصلا أو مادة تحت عنوان ” 3 سنوات سجنا نافذا لمن يطالب بفتح مطعم الحي الجامعي” فلم أجد ! فعرفت أني عبثا أحاول، و لا منطق في هذا البلد، تأكدت آنذاك أن لا حدود لخبث المخزن، و لا حدود للظلم في وطني، لكني لازلت أحافظ على حلمي، سأظل صامدا شامخا مصمما على هدفي، نعم لست محققا، لست شرطيا، لكني سأفضح المجرمين في بلدي، سأحارب حتى يظهر الحق و يزهق الباطل، أتذكر الامام أحمد بن حنبل حين قال في أيام محنته : “فأنا لها فستنجلي..بل لا أقول لعلها” وأنا أيضا أقولها اليوم ؛ هي خُطُوبٌ و ستنجلي و سيحلها من كان يملك عقدها، أوقن بأن عمر الاستبداد قصير، ولابد للمظلوم أن ينتصر و تظهر براءته ولو بعد حين.