هرمنا.. من أجل هذه اللحظة التاريخية.
إن المتتبع لمآلات الربيع العربي الذي انطلق سنة 2011، لابد أن يستوقفه هذا الحدث الفارق في التاريخ العربي، كانت البداية من تونس وحادثة “البوعزيزي” وحرقِ نفسه، ذلك الشاب الذي ادخرته الأقدار ليُريَ الشعبَ التونسي طريقَه بعدما فجر مقتلُه حراكا انتهى بفرار الرئيس السابق “زين العابدين بن علي” منتصف يناير من سنة 2011؛ لم تقف حدود لهيب حرق البوعزيزي نفسه عند حدود تونس، بل امتدت شرقا فوصلت إلى ليبيا ومصر، وبعد مخاض عسير مشابه لتونس اضطر الرئيس السابق “محمد حسني مبارك” إلى التنحي عن الحكم.
ظلت شرارة الثورات تمتد شرقا، لكن عندما وصلت إلى كل من ليبيا واليمن وسوريا، اختلف الوضع هناك كثيرا مع تدخل أطراف خارجية أرادت وأد الربيع العربي في مهده.
في ليبيا تحول الربيع دما وانقلب حربا أهلية بين نظام يتشبث بالسلطة ومقاومة تكافح من أجل إسقاطه، حتى سقط نظام العقيد “معمر القذافي” في أكتوبر من سنة 2011.
في اليمن تشبث نظام “علي عبد الله صالح” بالسلطة بدرجة أكبر، ولم يغادر موقعه إلا قتيلا، أما في سوريا فكان تشبث نظام “بشار الأسد” بالسلطة أعنف وأكثر دموية بمساعدة خارجية لتجسيد شعاره “الأسد أو لا أحد”، وفي المحصلة أصبح كثيرون يرون أن الأمور تبدو مع مآلات الربيع وكأنها عادت سيرتها الأولى.
“هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية” إنه عام 2011، وما تلاه من أعوام صاخبة، عام تكلمت فيه الشعوب التي نسيت الكلام من طول قهرها وصمتها، فكان صوتُها جهيرا قويا وكذلك كانت مطالبها، هنا تونس “ابن علي هرب، ابن علي هرب”، هنا أم الدنيا مصر “قرر الرئيس محمد حسني مبارك تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية”، هنا ليبيا “الشعب يريد التغيير”، هنا اليمن “الشعب يريد إسقاط النظام”، هنا المغرب “الشعب يريد إسقاط الفساد” وهنالك سوريا “حرية، كرامة، عدالة “
إنها الأصوات التي تحولت إلى كوابيس في نهار الطغاة وليلهم، فسفكت دماء غزيرة بزعم محاربة الإرهاب الذي لم يكن غير ثورات الشعوب نفسها، وشرد الملايين في الآفاق حيث لا وطن.
ما أن سمع الشعب المصري صيحة ذلك الرجل المُسن “هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية” القادمة من شوارع ثورة الياسمين حتى صار ميدان التحرير قبلة للمطالبة بالحرية ومهوى لأفئدة الملايين من المصريين. خرج الآلاف في القاهرة والسويس والمنصورة، وغيرها من المدن المصرية، ليرفعوا شعارات تجاوزت الخبز إلى المطالبة بإسقاط النظام كما فعل الشعب التونسي. وقد كان لهم ما أرادوا بعد مخاض عسير راح ضحيته شهداء وجرحى ومعطوبون، فكان مصير الرئيس “محمد حسني مبارك” نجاته ببدنه بعدما قرر تنحيه عن السلطة رغما عنه، وقد سلك مصير “زين العابدين” الذي نجا هو الآخر ببدنه ليكونا لمن خلفهما آية، لأن الشعوب أقوى وأبقى من حاكمها متى صح منها العزم، وإن مَثل مبارك في شعبه كمثل زين العابدين إذ قال له شعبه أصلح فأبى أن يكون من المصلحين، أَلا بُعدا لمبارك وبُعدا لزين العابدين، قال الشعبان الثائران.
تنتصر الثورة المصرية وتعُم الفرحة شوارع القاهرة وأرجاء العالم العربي، فيتم إجراء انتخابات رئاسية، وصل من خلالها الرئيس “محمد مرسي” إلى سدة الحكم.
وسط حماس جماهيري تردد صداه في ميدان التحرير وقف الرئيس “محمد مرسي” لأول مرة ليؤدي اليمين الدستورية في ميدان التحرير، المكان نفسه الذي كان بداية للظروف التي أتت به رئيسا، لكن حكمه لم يدم طويلا بسبب مؤامرة انقلابية قادها الفريق “عبد الفتاح السيسي” ضده، في 3 يوليو 2013، حيث عزل الرئيس محمد مرسي، وعطل العمل بدستور 2012، وفي شهرين ارتكبت السلطة مجازر ذهبت ضحيتها المئات، امتلأت السجون وعادت مصر لحكم الطوارئ.
رابعة العدوية.. واعترافات تحت الصعق والتعذيب
عاد المحتجون إلى الميادين رفضا للانقلاب العسكري، لكنهم لا يدركون حجم الثمن الذي سيؤدونه بعد صمودهم 48 يوما، إنها الليلة الأخيرة لاعتصام رابعة العدوية، همم عالية معارضة للانقلاب اعتصمت بميدان “رابعة العدوية”، وكان الجميع يدرك أن النهاية ربما اقتربت، لكن لا أحد متيقن مما يحمله ذلك الصباح المنتظر.
لم تشرق إطلالة الصباح حتى استيقظ المعتصمون بميدان “رابعة العدوية” على صوت، “عملية فض الاعتصام تتم بأمر من النيابة العامة…”، إنه ذلك الصوت الذي دوى في الميدان مع إشراقة 14 من أغسطس 2013، آليات الجيش العسكرية، ومدرعات الشرطة اقتحمت الميدان من جميع مداخله، وأمطر قناصة الأمن المتظاهرين بالرصاص، وأطبقوا الخناق على المعتصمين، ونفذوا أكبر مجزرة في تاريخ مصر الحديث، والوصف هنا لمنظمة ” هيومن رايتس ووتش”. فقضى الآلاف نحبهم، واختُطف المئات، لتبدأ معهم مسيرة الجحيم وتنتهي بإعدامات جماعية.
في دفعة ثالثة أقدمت السلطات المصرية بعد عودة “السيسي” من مؤتمر ميونيخ للأمن، على إنهاء حياة تسعة أشخاص أدانهم “القضاء” المصري في قتل النائب العام السابق “هشام بركات”، غير عابئة بتحذيرات المنظمات الحقوقية الدولية من غياب أدنى معايير العدالة والنزاهة في المحاكمة التي أجريت لهم. إنه إرهاب أنيق، وانتقام مُتقَن، فمجزرة مبررة، تلك إذن هي هستيريا الأحكام في مصر، أكثر من 2500 حكم إعدام منذ سنة 2013 صدرت ليكون عددها في مصر “السيسي”، هو الأكثر في تاريخ البلاد الحديث.
مع أولى خيوط فجر 20 من فبراير 2019 يودع تسعة شبان مصريين آخر أيامهم في هذه الدنيا، على الساعة السادسة صباحا، حيث كانت أجسادهم تتدلى فوق منصات الإعدام، شنقوا دفعة واحدة في عتمة سجن استئناف القاهرة، بعدما أدينوا بقتل النائب السابق “هشام بركات” لكن الواقع شيء آخر، والقاسم المشترك بين هؤلاء المُعدمين، أنهم من رافضي الانقلاب الذي قاده “السيسي”، بعدما سلكوا درب الآلام المتمثل في الإخفاء القسري، ثم التعذيب وانتزاع الاعترافات منهم، قبل انتزاع أرواحهم، وهذا غيض من فيض تضمنتها شهادتا اثنين ممن خنقت حبال المشانق أنفاسهما وصوتيهما.
“محمود الأحمدي” شاب من الشباب الذين عرفوا قبل السجن بتفوقهم الدراسي والمهني يروي خلال إحدى جلسات محاكمته، الانتهاكات التي تعرض لها في أثناء التحقيق، وكيف أرغم عن طريق الصعق بالكهرباء على الاعتراف، يقول رحمه الله: “نحن تعرضنا للصعق بالكهرباء، كهرباء لو سخر لمصر يكفيها 20 سنة”.
إعدام البراءة.. ارتياح الظلام
إن هذه الوتيرة المتسارعة لأحكام الإعدام دليل على ارتياح السلطات وتجاوز مخاوفها تدريجيا، من ردات فعل حادة، محليا ودوليا، وهو ما يُنبئ بتنفيذ المزيد من الإعدامات، لتشمل خصوصا سياسيين بارزين للسيسي وانقلابه العسكري الدموي.
إن مصدر هذا الارتياح في تنفيذ الأحكام – على ما يبدو- مرده إلى الوضع الداخلي والخارجي، أما داخليا فيتجلى في الصمت، الذي هو حصاد ما زرعته السلطات من إرهاب للمجتمع يُسهم في إقرار سلس لتعديلات دستورية تبقي السيسي في الحكم سنين عددا. أما خارجيا، فكيف يُفهم الاحتفاء بالسيسي ليكون أول رئيس غير أوربي يتحدث في الجلسة الرئيسة في مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث ألبس هناك كل ما يحدث في مصر غطاء محاربة الإرهاب الناتج عن التطرف الديني.
لو صح للسيسي في عزلته المزدحمة بالأحداث والخيارات العسيرة، أن يسأل المتظاهرين الرافضين للانقلاب والمعتصمين بميادين مصر حينها، ربما كان سؤاله : أتقومون للثورة قبل أن آذن لكم؟ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة.
إنه التاريخ، والتاريخ رجل عظيم لا ينسى تدوين مصارع الطغاة على صفحاته، يقول إن الطغاة أينما وجدوا سيتجرعون في الغالب كأس الموت التي جعلوا من مهمته إدارتها في الحياة بين شعوبهم متى استنكفت عن حياة القطيع، وذلك فعلا ما فعله السيسي لترويض شعبه ونسي أن الثورة لن تخمد نيرانها طال الزمن أو قصر. لكن الطغاة الواضعين أصابعهم في آذانهم، لا يسمعون صيحات شعوبهم، كأنه ما جاءهم خبر” الزين” وخبر” مبارك” وخبر ” العقيد”.
تتشابه مصارع الطغاة، ما بين هارب بجلده، أو متنح رغم أنفه، أو مكابر لا يزال يعاند، قال العقيد “معمر القذافي” يوما، معلقا على إعدام “صدام حسين”: “إن الدور آت عليكم جميعا”، كان لا يتصور الموت إلا أمريكيا، وضحك الآمنون في كراسيهم، لكن لا أمن بعد سنة 2011 إلا لمن أمن شعبه.
حتى ذلك الحين سيكون للسيسي موعد مع الدخول للتاريخ من أضيق أبوابه، وتُشفى آهات الأمهات الثكلى، والنساء الأرامل، والأطفال الأيتام، وترض أرواح آلاف المصريين الذين سقطوا في مسيرة الخلاص الدامية من حكم السيسي.
فليعلم الطغاة أن الحياة تُستمد من موت الشهداء، ولا نامت أعين الجبناء.
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء}.
بقلم: لحسن عيا، باحث بسلك الدكتوراه.