محاولة فهم مايجري في غزة
لا يكفي أن نصف ما يجري في غزة بالاجتياح، على اعتبار أن الاجتياح يكون هدفه إظهار القوة للخصم أو العدو دفعة واحدة، من أجل إرهابه وصده وحسم المعركة في أقل وقت ممكن. فـ”إسرائيل” تعي تمام الوعي أن معركتها في غزة لن تحسم في شهر أو شهرين، لأنها تواجه احتياطيا من المجاهدين تحمله أرحام الأمهات وسراديب الأنفاق المجهولة.
كما لا يكفي أن نصف الوضع بالكارثة الإنسانية، لأن الكوارث الإنسانية في عصرنا الحالي لم تعد تخيف البشرية، فقد طور العقل الإنساني سبل مواجهة العديد من الكوارث البشرية صغيرها وكبيرها إلا ما كان منها طاعونا كالذي نراه، لا حيلة معه إلا بالاستمساك بتعاليم الشرع الحنيف وإعداد القوة الكافية للممانعة.
ولا يكفي كذلك أن نصف وضع غزة بحرب الإبادة الجماعية، ف”إسرائيل” لا تراهن على إبادة جماعية لشعبنا في غزة لأن لها من الخبراء ما يكفي لتجنيبها طرق الحروب التقليدية التى تجمع البيض في سلة واحدة كما تقول العرب. “إسرائيل” تريد غزة والضفة لخيار سياسي واحد، وهي بكل هذه الحماقات تود التخلص من خيار سياسي تمثله حماس وباقي الفصائل المناضلة الأخرى.
كما لا يكفي تسمية ما يقع في غزة بالحصار، لأن الغريب فيما يقع أن بعض المناطق التي تزود بالوقود من “إسرائيل” استطاعت لبعض الوقت أن تتمتع بالكهربة، في حين أن المناطق التي تزود بالوقود من الدول العربية المجاورة عاشت على الظلام، تمهيدا لضربات صواريخ أرض- أرض وصواريخ الاغتيالات المتحكم فيها عن بعد.
ما يقع في غزة تجاوز الوصف، فلا هو اجتياح فقط ولا هو إبادة ولا كارثة إنسانية، بل هو كل هذه التوصيفات وزيادة. إنه إصابة بجرثومة خاصة، اسمها “علو بني إسرائيل”. وهذا الداء هو نفسه الذي وصفه القرءان الكريم وشدد على الاحتياط منه، وهو الوباء نفسه الذي حذرت منه السنة النبوية الشريفة ووصفته “بداء الأمم”، لذا فأي وصف لأفعال هذه الجرثومة في الجسم الإسلامي يبقى قاصرا، فلا حد ولا نهاية لأعراض الإصابة بهذا الوباء.
فاعل هبل. فالله أعلى وأكبر وأعظم وأجل،
وما لك يا صهيون إلا علوك الثاني والأخير هذا،
وانتظر دمارك على يد عباد لله أولي بأس شديد
نسميه علوا لأنه لا يستطيع العقل الإنساني أن يتصور ما يجري في فلسطين، كما يعجز الإنسان عن تصور حجم الاستخفاف الذي وصلت إليه الأنظمة العربية، إلى حد التواطؤ المعلن حول بيع أرض المقدس مقابل تعويض بخس محتمل، وتشريد اللاجئين، وقتل المرضى بحجز الدواء ومنع الشعائر الاسلامية بإقفال المعابر. فجل الخبراء السياسيين بالعالم اليوم حيارى في تصنيف ما يجري.
ففي أية خانة يمكن أن نصنف بناء الجدار من جانب واحد يعزل عمليا دولتين، إحداهما يهودية بامتياز وأخرى للفلسطينيين المراقبين ليل نهار من قبل القوات الإسرائلية تعد أنفاسهم و تحمي الاستيطان المستمر، كل ذلك في تجاهل تام لكل القرارات الدولية بل حتى الأصوات الإسرائيلية الداعية إلى وقف الاستيطان والتخلي عن بناء الجدار العازل.
وفي أية خانة يمكن أن نصنف استعمال هذا الأسطول من الآلات الحربية المتطورة في حق العزل من الأطفال والشيوخ والنساء، واستعمال المواد المحظورة في قتل النشطاء من كل الفصائل حتى أصبح في حكم المؤكد ألا تجد جثت الشهداء إلا متفحمة جراء استعمال هذه المواد والأسلحة المحظورة.
وفي أية خانة يمكننا تصنيف ما يسميه زبانية بوش وأولمرت بالتفاوض حول قضايا الحل النهائي. وهي الفرية التي لا يصدقها حتى القائمون عليها، على اعتبار أن قضايا الحل النهائي ثلاث أو أربع لا مراء فيها: حق العودة، القدس عاصمة، حدود 67 والمستوطنات. فجماعة عباس لم تتمسك حتى بما يضمنه لها المنتظم الدولي من حقوق للشعب الفلسطيني، ولانراها اليوم إلا في تسبيح وتهليل بكلام بوش والدكتورة رايس.
وفي أية خانة يمكن أن نصنف قتل النشطاء الفلسطنيين برصاص السلطة، وتفتيش المخابئ وحجز الأسلحة ومنع التظاهرات المنددة بالاحتلال، واغتيال القادة الحقيقيين وإدانة العمليات الاستشهادية وغيرها كثير.
وأسئلة أخرى لا تكاد تحصى في حق واقع معقد لا سبيل إلى فك طلاسيمه إلا بحوار حقيقي بين أبناء الخندق الواحد، وهو الأمر الذي غدا من المستبعد على الأقل في المرحلة الحالية، لأن الأطراف لم تعد أمام معالجة اختيارات، بل أصبحت أمام معالجة حالة نفسية لمجموعة من العقد التي خلفتها نتائج التمسك الأعمى بهذه الاختيارات.
هذا عن محاولة فهم ما يجري وفق منظور غيور على مصلحة قضية وحدت الأمة حقا، أما عن الفهم السياسي للوضع في غزة، وما سيتلوه من أحداث لا قدر الله، فنرجع إليه بالتفصيل إن شاء الله في سلسلة حلقات نناقش فيها خطة دايتن/دحلان للسلام.