من الانتصارات الاستراتيجية إلى الانتصارات المصيرية من خلال غزة
1: من سؤال القوة لدى الكيان الصهيوني إلى سؤال الوجود
إن الانتصارات السابقة للمقاومة كانت ذات عمق استراتيجي وقيمة تاريخية، لأنها حققت ما يسمى بتوازن الرعب وأدخلت الكيان الصهيوني حول سؤال حقيقة قوته من خلال سؤال قوة الردع لدى جيشه والتماسك الحقيقي لجبهته الداخلية.
أما انتصارات المقاومة في المعركة القائمة على أرض غزة اليوم، والتي صاحبتها انتفاضة شعبية حقيقية في الضفة والداخل (خاصة في القدس)، فقد كشفت عن قيمتها المصيرية لاعتبارين اثنين أساسيين:
الأول: لو كسرت شوكة المقاومة فيها، نظرا للظروف الإقليمية والدولية المحيطة بها، لكانت نكسة كبرى وتقدما حقيقيا للكيان الصهيوني في معركته ضد قوى المقاومة، خاصة الإسلامية، وهو ما لم يتحقق؛ بل كانت المقاومة على يقين بحجم الانتصار الذي ستحرزه ليفتح لها أفق معارك التحرير.
إن حجم الانتصار في هذه المعركة ونوع الأدوات العسكرية والسياسية المستعملة فيها كشف عن مدى الاستعداد الواعي الذي أنجزته المقاومة على أرض الواقع بناء على وعي مصيري بالقضية في لحظة تاريخية صارت فيها الأدوات العربية في المؤامرة مكشوفة وواضحة.
الثاني: أن هذا الانتصار في هذه المعركة ضمن الظروف المحيطة بها جعل من الانتقال من مرحلة تغيير المعادلات البشرية والعسكرية والسياسية والمجتمعية إلى مرحلة التحرير، تحرير الإنسان والأرض، انتقالا قويا وعلى أرضية صلبة سيجعل من نهاية وجود الكيان الصهيوني مجرد وقت، ولا شك أن هذه النهاية واقعيا تعني نهاية الهيمنة الاستعمارية الغربية مع هيمنة أنظمة سياسية هرمة لم تعد مناسبة تماما للمرحلة التاريخية التي تعيشها الأمة.
2: مفاجآت المقاومة وفشل المؤامرة
في حديث بعد مجزرة فض اعتصامي رابعة والنهضة في مصر سألني أحد الأصدقاء عما يجري في هذا البلد؛ فقلت ساعتها: “صعب أن تصفعك الصهيونية بأيدي بني جلدتك، والأصعب منه أن تبطش بك هذه الأيدي بطشا مروعا؛ فما فعلته الآلة القمعية في مصر وما تفعله آلة القتل في سوريا والعراق وبلاد أخرى إنما هو ضوء أخضر عربي رسمي للبطش الفظيع بالفلسطينيين؛ إذ لما يفعل العرب في بعضهم ما نراه؛ فإنما يدعون العدو الوجودي إلى القيام بالمهام القذرة التي عجزوا عنها، لقد صار من الواضح أن بعد أول استتباب للانقلاب في مصر ستكون حماس، وعموم المقاومة في غزة، أول مستهدف من طرف الكيان الصهيوني، وهو ما سيكشف عن مستوى المؤامرة وأدواتها وأهدافها، والمعول عليه بعد الله تعالى مدى استعداد المقاومة لدفع العدوان.”
لذلك كانت مفاجآت المقاومة العسكرية والميدانية والسياسية والمجتمعية، التي لم تكن في حسبان دهاقنة هذه المؤامرة الصهيونية الصليبية الاستعمارية التوسعية، عامل تغير جوهري في طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني وداعميه، ومع الأنظمة العميلة والمتخاذلة اتجاه القضية الفلسطينية في إطار التحولات المصيرية التي تعرفها الأمة والإنسانية.
3: الربط المصيري بين تحرير فلسطين وبين تحرير الأمة
لا يجادل أحد في كون المقاومة قامت وتقوم بالواجب عليها من موقعها، لكن السؤال يبقى حول الدور الواجب على الشعوب في هذه المرحلة الدقيقة من الصراع مع المؤامرة الصلبية الصهيونية الاستعمارية التوسعية وأدواتها الأساسية المتجلية في الكيان الصهيوني وأنظمة سياسية ارتبط وجودها واستمرارها بوجود هذا الكيان واستمراره.
لذلك سيكون من العبث في ظل واقع التجزئة، الذي تعمقه هذه المؤامرة بكل الوسائل القذرة، عدم الوعي بما كشفته معركة غزة العزة اليوم من العلاقة بين قوة ووجود الكيان الصهيوني وبين قوة ووجود أنظمة سياسية مفروضة كانت أهم عائق أمام عدم اكتمال مسارات ما سمي بالربيع العربي.
إن الحراك المجتمعي والسياسي في كل بلد عربي لا ينطلق من حتمية العلاقة بين زوال “إسرائيل” وزوال هذه الأنظمة، إنما هو حراك هامشي وشطحي، ومن ثمة عليه الانخراط الجذري في استراتيجية التحرير الشامل وفق وعي محلي ومرحلي ومصيري يدقق في العلاقة بين دور المقاومة وبين دور الشعوب وحركات التغيير في إنجاز واقع الحرية والقوة والاستقلال.
فانخراط أنظمة عربية، مثل نظام الانقلاب في مصر أو نظام العائلة في السعودية وما جاورها، إذ يؤكد هذه العلاقة، فإنه يثبت أن مستقبل الحرية رهين بسقوط ركني الظلم (الكيان الصهيوني والأنظمة الاستبدادية والوراثية)، وهو ما يؤكد، كذلك، أن سقوط أحدهما سيفضي حتما إلى سقوطهما معا مهما كانت الدعم الخارجي، ومن ثمة فبناء القوة المجتمعية الراعية لتنفيذ استراتيجيات التحرير لدى الشعوب لا يقل أهمية ودرجة عن بناء المقاومة، وهو ما تؤكده فصائل المقاومة في غزة لما رفعت خلال هذه المعركة شعار التحرير وتحريك الحراك الثوري في الضفة والداخل.
لقد كشفت معركة “العصف المأكول” عن مضمون المرحلة التاريخية المصيري الذي ينبغي أن يملأ استراتيجيات التغيير والتحرير لدى كل الشعوب، وهو ما يعني حتما تصحيح مسارات ما سمي بالربيع العربي الذي ينبغي أن يجعل بوصلته القضية الفلسطينية في علاقتها بالحرية الحقيقية والكاملة.
وإلى معركة قادمة ستكون مفاجآتها ليست عسكرية فقط؛ بل سياسية هامة تستند إلى قيم جديدة في بناء الضمير الإنساني وقواعد الصراع في العلاقات الدولية، إذ بعدما كنا نتحدث في فترة سابقة عن موت هذا الضمير كما هو قائم اليوم، فقد أصبح الحديث عن تشييعه إلى مثواه الأخير مع معركة غزة العزة لاستقبال منظومة جديدة ستفرض على الحركة الإسلامية تغييرات جوهرية في عملها السياسي والمجتمعي حتى تتأهل للقيام بدورها الطليعي في إمامة المستضعفين وقيادتهم نحو الحرية والكرامة والعدل. ومقدمة ذلك الضرورية سقوط الكيان الصهيوني وزاوله وسقوط أنظمة سياسية صارت أكبر عائق أمان التغيير والتحرير.