وأنت تتجول في المكتبات وتنقب في ركام الكتب تبحث عن ذلك الكتاب وعن تلك الفقرة ثم الجملة ثم الكلمة التي من شأنها أن تغير حياتك للأبد وتعيدك إلى سكّة الرشد بعد أن كنت تشكوا من الإنحراف والحيرة.
نعم..جملة واحدة بإمكانها أن تقلب حياتك رأسا على عقب يمكنها في لحظة أن تقتل حيرتك وتبدد قلقك وتروي ظمأك.
لأجل هذا كان الكتاب خير أنيس وكانت القراءة بمثابة المفتاح الذي يفتح لك الأبواب والآفاق من أجل المعرفة والثقافة والرقي والإزدهار والتقدّم نحو الأفضل.
كان مالكوم إيكس يقرأ أكثر من خمسة عشر ساعة في اليوم وحين يتم إطفاء الأنوار في السجن يستعين بأضواء الممر لينهي حصّته من القراءة اليومية المكثّفة. حقّا إنه إدمان جميل وسفر نحو العلياء ففي كلّ مرة تفتح فيها كتابا فإنك تفتح بذلك نافذة جديدة تطلّ منها على حياة أخرى وأشواق أخرى..الكتاب يمنحك تأشيرة السّفر نحو عوالم جديدة لم ترها من قبل..تسافر بقلبك وروحك وإحساسك.
“الكاتب ابن بيئته” هذا ما يقال. وأنت بتعاقدك مع كثير من الكتب والكتّاب سوف تتعرّف على بيئات كثيرة وستحتكّ بطبائع مختلفة وتعيش تجارب متنوعة تخلق منك في كل مرّة إنسانا جديدا وتقوم بتهذيب ذوقك وإعادة تشكيلك على مقاس جميل كما عبر عن ذالك مارك توين “الكتب لمن يريدون التواجد في مكان آخر”.
الكتاب وسيلة للبحث عن الحقيقة واسترجاع الذات الضائعة حتى وإن كان الأمر متعبا لكن ما أروع التعب من أجل الحقيقة والجري خلفها من خلال الصّفحات والسطور والجمل المتعثرة..هو وسيلة ناجعة لأنه بكل بساطة يختزل لك الزمان والمكان والتجربة يكفي فقط أن تقرأ لتشعر بعدها أنك فعلا عشت تلك السنوات الطويلة المختزلة وبأنك كنت حاضرا في ذلك المكان الذي ربما تفصلك عنه مسافة سحيقة. ف “الكتب ليست أكواما من الورق الميت بل هي عقول تعيش على الأرفف”.
لو قرأت كثيرا ستعيش آلاف السنين وستزور كثيرا من الأماكن وستمرّ بك كلّ الأحاسيس التي يمكن أن يشعر بها البشر من حزن وبكاء وفرح ودهشة وألم وتعاطف..وربما يحدث انقلاب داخلك فتصبح في لحظة إنسانا آخر غير الذي كنته قبل قليل..ستوقعك الكتب في الحيرة والإرتباك. ستلتقي بأفكار جديدة تصدم عقلك المومن و يتزعزع إيمانك الموروث وتحاول بذلك مراجعة المسلّمات التي كنت تعتقدها إعتقادا راسخا لا محلّ للشّك فيه. إن كنت قارئا صادقا لا بدّ أن تصادف كتابا يسرقك من نفسك فيحرمك من الأكل والنوم وتظلّ معلّقا به منذ الصّفحة الأولى وحتى آخر صفحة وربما تعيد قراءته أكثر من مرة وتحمله معك في حقيبتك بشكل دائم وتحكي لأصدقائك عنه وتناقش أفكاره بشغف الحقيقة الضائعة منك.
يقال بأن العقّاد حين إشترى أول كتاب له وقرأه لم يجد مالا ليشتري كتابا غيره فقرر أن يعيد قراءة الكتاب الأول وظل يقرأ الكتاب الأول لأكثر من ستّين مرة حتى حصل على المال لشراء عنوان آخر وكذلك حصل مع الكتاب الثاني فكانت هذه سنة جميلة اعتادها العقّاد في تعامله مع الكتب حتى بعد ان توفر له المال لشراء كتب كثيرة.
كثير من الكتب تجد فيها دهشتك الطّفولية فتتعجب لكون تلك الصّفحات تتحدّث عنك. عنك أنت بالذات تصوغ أحلامك وميولاتك في قالب جميل من البلاغة والحكمة فتفرح وتسعد سعادة بالغة لأنك وجدت في الضّفة الأخرى قلما محترفا يعبّر بصدق عن نواياك وأفكارك وطموحاتك. ويمدّ لك الجسور مع حقيقتك الضّائعة.
ولكن المعلوم مع كل هذا بأن الطريق نحو الحقيقة لا يخلوا من الأشواك هو في كل الأحول طريق غير نظيف لذلك يمكن أن تصادف في طريقك كتبا تبثّ سموما في داخلك وتشحنك بأفكار سلبية وتخدش ذوقك السليم قد تودي بحياة عقلك وربما تقودك للهلاك..ربما من الجيد اكتشاف ما هو سيء ومسموم ولكن الحذر واجب. لذلك يجب عليك أن تختار بدقّة مرشدك نحو الحق وأن يكون ذوقك في محلّه بعيدا عن الكلام المنمق والتزييف الكبير للحقائق عليك تحصين نفسك بسياج من المبادئ الرصينة التي تحميك من الإنحراف والضياع .
من جهة أخرى لا تقرأ لتوجّه واحد ولا تعكف على أعتاب مدرسة وحيدة يتوجّب عليك الإطلاع على أكبر عدد من المدارس والتوجّهات لكي تصوغ فكرتك وربّما تبني مدرستك وتصنع نفسك ونموذجك. والعبرة ليست بالكم الهائل من الكتب التي قرأت وإنما مدى تجواب عقلك وتحليله للحقائق وانتعاشه بمعلومات جديدة تكون إضافة جميلة لك.
وأخيرا في طريقك نحو الحقيقة لا بدّ أن تتعثّر وتتأخر لا بدّ أن تتألّم وتسهر وتتجرع السّموم وتجرح عقلك فتصيبه نفحة من التيه والجنون لكنك على كل حال لن تبلغها كاملة المتعة في التعب لأجلها. وتصير بعد الكمّ الهائل الذي قرأته مدرسة متنقلة عبر الأجيال تسعى لنشر فكرتك وتعميمها فتكون حاضرا بقوة أفكارك وقوة إيمانك يقول الفيلسوف ليسينغ “لو كان بيد الربّ لا إله إلا هو بيده اليمنى الحقيقة كاملة وبيسراه البحث الدؤوب عنها المترافق مع السّعي الدائم والخطأ لجثوت على ركبتي عند يسراه وقلت له : إلهي أعطني ما في يدك اليسرى أما الحقيقة كلّها فهي التي تليق بمجدك وجلالك”.