لم أبلغ من العمر عتيا، ولم أصل لخريفه بعد، وأدركت الغزو الفكري الانهزامي الذي زرع فينا منذ الصبا، تلك الشتلة التي نمت وترعرعت فينا.
من منا لم يسمع ولم يقل جملا من قبيل “نحن العرب متخلفون، حتالة، رعاع، قطيع …”، “من المستحيل أن نصل لتقدم الغرب، تلزمنا سنوات ضوئية لنركب القطار الحضاري، أو نسير في سيره على الأقل …”، لن أنكر أنهم نجحوا في بث أفكار محبطة داخل أنفسنا بل وأحدثوا شرخا في نسيج طموحنا وأوسعوه بالضخ المتزايد لهذه الأفكار ودعموها بإحصائيات ورسائل مفخخة يمررونها في الإعلام والأفلام، مفادها أنهم الأفضل وأنهم أصحاب حضارة وتاريخ وأمجاد، وأننا مجرد شعوب متخلفة بدائية وسمونا بدول العالم الثالث، أو عندما أرادوا تنميقها زينوا بعضها باسم الدول السائرة في النمو، لا مجد ولا تاريخ لها…
والمعضلة أننا صدقنا واستسلمنا وآمنا أن “الغرب هو القدوة” حتى أصبح منا من يدافع عن الغرب أكثر من الغرب نفسه. تم تدجيننا وسلب الإرادة الكامنة فينا.
غير بعيد كان الاستعمار يأخذ العبيد والذهب والمواد الأولية ويحتل الأرض بترسانته القمعية، وقوته فوق الأرض وأسلحته الفتاكة… هاهو الآن يعود بذكاء وفطنة ليحتل العقول بالتكنولوجيا والاقتصاد والفن والسياسة…
في سوق الإعلام نجد شبكة احتكار لأربع وكالات هي: الأسوشيتد واليونيتد برس (أمريكا )، ورويترز (بريطانيا)، وفرنس برس (فرنسا)، وكل محطات الراديو وقنوات التليفزيون وكل صحف العالم تشترك جميعها في تلك الوكالات.
هذا الاحتكار يتجاوز مايمكن استشفافه أول نظرة، بل يتعداه لأن يكون خطا تحريريا واحدا يخدم “التحكم” إذا جازت تسميته كذلك.
لن تكون العقول المستقبلية على حال أفضل، اذا استمر هذا الوضع، بل ستظل أسيرة لون واحد من المعلومات تأخذ إلهامها من نبع محدود يعطيها مايريده اصحاب الأمر، الذين يهدفون لتشكيل /خلق عقول تلائمهم ولابأس في طمس الهوية ومحو الأعراف والتقاليد والترويج للإلحاد وتذويب البنية العقلية والسلوكية للفرد في مقابل تكنولوجيا براقة وجنات من الحريات الفردية…
كما يقول سيرج لاتوش “ليس وراء هذا التغريب الثقافي إلا محاولات التبشير القديمة”
وسوف تكتشف البلدان النامية بعد فوات الآوان أنها ما أخذت في مقابل روحها وآمالها التي أعطت إلا وهما زائلا.
لا أقول علينا أن نغلق الأبواب والنوافذ ونتقوقع على أنفسنا ونعود إلى أدراجنا في عزلة عما بلغه العالم في السنوات الأخيرة، بل لابد أن نتخلص من التنويم المغناطيسي الذي خضعنا له، وأن نضع على عقولنا مصفاة ناقذة تنقي وتجادل كل ما يلقى إليها، فقد أصبح الانفتاح اليوم أمرا لا مناص منه، وأضحت العزلة غير ممكنة وغدا الاستسلام للأفكار الغربية وأخذها بالأحضان والتشرب منها هو انتحار حضاري، والصواب هو اليقظة الفكرية والإيمان بالذات وبالهوية التاريخية الإسلامية، فهي مصدر الأنوار والمعرفة، فكما لهم علومهم وحضارتهم فلنا علومنا وحضارتنا، لا يجوز أن نسحق ليرتقوا على أنقاضنا، بل يجب أن يثمر تلاقح الثقافات ليولد مهدا جديدا !