رأي حر
الاستبداد وتدمير بنية المجتمع… الشباب نموذجا
واجهت الأمة الإسلامية تحديات جسيمة استهدفت كيانها وبنيانها من الأساس، فقد تعرضت مقوماتها التربوية والسياسية والعلمية/العملية لمنعطفين تاريخيين كان لهما الأثر البالغ في مسيرة هذه الأمة الخالدة. كان أول هذين المنعطفين هو انفراط عروة الحكم واستفراد غلمان بني أمية بالحكم على رقاب المسلمين، منعطف أسس لانكسار تاريخي لازالت الأمة ترزح تحته نيرانه منذ قرون بعيدة. والمنعطف الثاني هو الاستعمار الذي استباح بخيله ورجله جميع الأقطار الإسلامية، ولا زال يجثم عليها إلى يومنا هذا بثقافته وأذنابه وصنائعه.
لقد نال الشباب حظا وافرا من كل المخططات الاستعمارية الهادفة الى القضاء على المجتمعات أو تطويعها وترويضها. فكل حركة هدامة خططت لإركاع الأمة ودبرت لتشتيتها إلا وكان الشباب، وهو زبدة المجتمع، في قائمة أولوياتها تدجينا وإفسادا، وكل محاولات إخضاع الأمة كانت ترتكز على الشباب باعتباره الحلقة الأهم في كل عملية تستهدف تغيير بنية المجتمع.
نصبت الدول المستعمرة لأراضي المسلمين والناهبة لثرواتهم الشرك بإتقان لفئة واعدة من الشباب المسلم، فكانت ترسلهم في “بعثات” ظاهرها تعليمي لمواكبة التقدم العلومي، لكن جوهرها تخريبي يعمد إلى الشخصية المسلمة فيطحنها برحى الثقافة والفكر الغربيين، مستبدلا إياها بشخصية حداثية وتقدمية منسلخة عن قيم هويتها الأصلية.
أنتجت رياح التغريب الثقافي جيلا من الشباب اجتمع فيه من الأمراض الحسية والمعنوية ما يستعصي على الإصلاح، شباب فارغ من كل معنى، لاه عن مصيره الدنيوي
والأخروي وعن هموم أمته، غارق في أوحال الجهل والخمول واللامبالاة ومستغرق فيها.
أهمية الشباب في عملية التغيير
كان الشباب في فجر الإسلام اللبنة الأساسية في بناء صرح الإسلام، وتغيير بنية المجتمع الجاهلي إلى أمة فضلت على كل الأمم، وكانوا الغالبية العظمى من الملتحقين بركب الإسلام والمستجيبين لدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم منهم وبهم بدأ يشع نور الإسلام في كل بقاع المعمور. استجاب الشباب لنداء الرحمن ليغتنموا العمر كله في طاعة الله وتبليغ دعوته، وليكونوا من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم: “شاب نشأ في طاعة الله” .
كثيرة هي الأمثلة الشاهدة على محورية عنصر الشباب في الحركات التغييرية الكبرى التي عرفتها الإنسانية. نذكر على سبيل المثال، لا الحصر، الثورة الفرنسية التي كان وقودها الشباب (الطلبة على وجه الخصوص)، فقد برز بشكل جلي الدور المحوري الذي لعبه الشباب لما يتميز به من حماسة لا تخبو جذوتها وطموح جامح لا يعترف أمام تحقيقه بالمستحيل، إضافة الى درجة عالية من الديناميكية والحيوية والمرونة، المتسمة بالاندفاع والانطلاق والتحرر والتضحية. كل هذه المميزات تمكن الشباب من الاستجابة للمتغيرات من حوله، بل والمشاركة الفعالة في صنعها، وسرعة في استيعاب الجديد المستحدث وتبنيه والدفاع عنه، وهذه السمات تعكس قناعة الشباب ورغبته في تغيير الواقع الذي وجد فيه وإن لم يشارك في صنعه. كان نتيجة الثروة الفرنسية التي كان الشباب وقودها، ان تطورت فرنسا وارتقت وتميزت من بين الأمم، بل فاض خير الثورة الفرنسية على أوروبا كلها.
في الصين لم يكن يخفى على رجل مثل ماو تسي تونغ أهمية الشباب ودوره في نشر أفكاره بداية من سنة 1927، ثم أثناء إعلانه جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، وانتهاء بإعلانه ثورته الثقافية في مايو 1966. كان عون ماو وزاده في رحلته الشاقة والطويلة في الرقي بشعب الصين العظيم وتحريره من الاستعمار الياباني، ثم الدفع به نحو مصاف الدول العظمى، كان زاده، إضافة الى حكمته وكاريزميته، قوة الشباب وحماستهم واستعدادهم المنقطع النظير للتضحية بالوقت والجهد والمال في سبيل إنشاء الصين الشعبية “العظيمة”.
طاقات مهدورة
في بلادنا العربية الإسلامية، يشكل الشباب قاعدة الهرم السكاني، الوضع الذي يعتبره علماء الاجتماع مثاليا، أي أننا نتمتع بأمثل وضع من حيث “الثروة البشرية” التي حرم منها غيرنا، فالإحصائيات الإستشرافية تنذر الغرب المتقدم عموما وأوروبا على وجه الخصوص بشيخوخة قاتلة يصبح معها المستقبل على كف عفريت.
هذا الوضع المثالي نظريا، لا تستفيد منه بلاد العرب والمسلمين حيث أن هذه الشريحة المهمة والمخزون الإستراتيجي من الشباب هو القطاع الأكثر تضررا، والأكثر تعرضا لمخططات التجهيل والتدجين، فقد أضحى شبابنا مجالا خصبا لنمو جميع الآفات الجسمية من أمراض واختلالات، وأخرى نفسية كالأمية واليأس والبِؤس وغيرها.
في شبابنا طاقات مهدورة داخل البلد، مصيرها بعد شهادات علمية عليا الفقر والعطالة والانحراف، وأخرى درر منثورة في الدول الغربية يستفيدون من قدراتها ويستثمرون طاقاتها في كل المجالات.
لقد تميز الشباب المسلم في أعرق الجامعات الغربية وأظهر تفوقا منقطع النظير في كل المجالات العلمية، برع أبناء المسلمين في جامعات غربية في مجالات التكنولوجيا والفضاء والاتصالات والطب والهندسة وغيرها من المجالات الرياضية والفنية وغيرها، وأصبحوا مثالا، في أحايين كثيرة، حتى لشباب “دول الشمال”. الفرق الوحيد بيننا وبينهم أنهم يوفرون الإمكانات المادية والمعنوية، ويحتضنون ويوجهون الشباب حسب الرغبة والميول والقدرة، ونحن نجهل ونثبط وندفن كل حلم قبل أن يتحقق. وصدق من قال: “هم يشجعون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل”.
أساليب الاستبداد في تدجين الشباب
يقول أرسطو: “إن الغاية النهائية للطاغية المستبد كي يحتفظ بعرشه هي تدمير روح المواطنين وجعلهم عاجزين عن فعل أي شيء إيجابي، وفي سبيل تحقيق ذلك فهو يلجأ إلى القضاء –بوسائل مختلفة– على الطبقة المثقفة التي قد تشكل خطرا على حكمه، كما أنه يلجأ إلى منع الاجتماعات ويعمل ما في وسعه لعزل كل من يساهم في تعليم الناس وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتنمية روح الاغتراب لدى المواطن العادي ومحاولة قطع الصلة بين المواطن ووطنه” . هكذا هو حال كل الطواغيت عبر كل الأزمنة وكذا الحال في بلادنا وباقي الأقطار العربية الإسلامية، يبذل المستبد كل ما في وسعه للحفاظ على موقعه وجعل الناس يخضعون لسلطانه قهرا بالقمع والترهيب أو استمالة بالإغراء والترغيب.
إن جزء كبيرا من هذه الوسائل الملتوية سهام سامة يرمى بها شباب الأمة وهم كبدها، فلا يستطيعون نهوضا، ولا يقدرون على حراك، وهم المؤهلون لذلك خلقة وفطرة. ومن جملتها:
1. أسلوب الإلهاء: يحتكر الاستبداد وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وينتهج سياسة غسل الدماغ عبر الانتشار الواسع لوسائل الاتصال الحديثة وكذا التلفزيون وتنويع برامجه التي كانت كلها تركز على إبراز النزعات الفردية وبالتالي إضعاف الروابط الاجتماعية. وكانت معظم البرامج تركز على تشجيع النشاطات الرياضية والفنية. وقد نجحت وسائل الإعلام في إبعاد المواطن عن التفكير، ناهيك عن المشاركة في الأحداث الجسام التي بدأت تفعل فعلها في الواقع، وذلك كله بغية بتره عن هموم أمته ومصيرها وقضاياها الجوهرية.
2. أسلوب التنفيس: يمكن الاستبداد الشباب من التعبير عن آرائهم إزاء الأعداء الخارجيين ويسمح لهم بتوجيه النقد إلى الأنظمة العربية ولكن بشكل مدروس وعام شريطة عدم الدخول في التفاصيل إلا ما يناسب منها مصلحة النظام فقط مع استمرار خطر التطرق إلى النظام نفسه.
3. أسلوب تشجيع الاستهلاك: يفتح الاستبداد الأسواق المحلية لشتى أنواع البضائع المغرية، وهو ما زادت معه الرغبة الاستهلاكية لدى الشباب، الشيء الذي دفعهم بقوة نحو سلوك كل الطرق المشروعة وغير المشروعة لاكتساب المال في غفلة تامة عن قضاياه الأمة المصيرية.
4. أسلوب التفكيك: يقف الاستبداد في وجه كل محاولات تجميع الشباب وتنمية قدراتهم، فتجده يخترق الفضاءات الشبابية ويعيث فيها فسادا وإفسادا حرصا منه على تفكيك بنية الجسم الشبابي. يمنع ذوي المروءات من الفضاءات الجمعوية، ويضيق على كل الغيورين على المصلحة الحقيقية للوطن، يضيق على الجمعيات والنقابات الطلابية والتلمذية، ويسعى لإفراغها من كل معنى، يحاصر الأنشطة الهادفة ويعويضها بالميوعة والسفالة وسوء الأخلاق…
تواطؤ مقيــت
ما كان للاستبداد أن يراوح مكانه لولا هذا التواطؤ المكشوف مع المستعمر الغربي الذي يسعى دائما للإبقاء على مصالحه، والذي يدرك جيدا دور الشباب وقدرته على قلب موازين المعادلة لغير صالحه في أية لحظة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب العدل: “أطلق بعضهم اسم “الدائرة الصماء” على حَلْقةٍ من الدكاترة الجامعيين والكتاب الأدباء والصحفيين كانوا طليعة أنصار التغريب في مصر، مثل النصراني شبلي الشميل والنصراني سلامة موسى وزعيم القوم أحمد لطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمد حسنين هيكل ومنصور فهمي ومحمود عزمي وإسماعيل مظهر. طائفة من الشباب أُرْسِلوا إلى فرنسا وإنجلترا، فدرسوا في جامعاتها ردحا من الزمن ورجعوا مزهُوِّين بدبلوماتهم، أفندية يتيهون على أبناء الفلاحين الأزهريين، ويُشيدون بالحضارة البراقة التي احتضنت مُراهَقَتَهُم الشبابية ومراهقتهم الفكرية، ثم أرسلتهم دعاة مخلصين متعصبين للفكر الغربي والنمط الغربي للحياة” . ويضيف في نفس الفصل: “ما هذه الوجوه من الشباب الذين فَرْنجوهم وأرجعوهم إلى الديار لينشروا في الناس دعوة الانقياد للغرب إلا ضحايا لخُطة محبوكة.وما دائرتهم الصماء إلا مبنىً أساسيٌّ من مباني التبعية التي لا تكتفي بنهْبٍ مؤقت، بل تزرع في الأرض المغزوة وُكلاءَ دائمين مستديمين متوالدين على الأجيـال، يزول الاحتلال العسكري ويبقى الوُكلاءُ أوْفياء مخلصين” .
بهذا تكون “النخبة المثقفة” يدا طولى تارة في يد الحاكم المستبد يضرب بها عمق الأمة المتمثل في شبابها وخيرة أبنائها، فيعيثون في فكر الشباب وسلوكه فسادا وإفسادا. وتارة في يد المستعمر الغربي ينفذ بها مشاريعه ويحافظ بها على مصالحه. فكانت النتيجة تخلف في كل الميادين، غياب عن المنتديات والمحافل العالمية فنيا وثقافيا ورياضيا، وتذمر نفسي يرخي بظلاله على فكر الشباب وسلوكهم.
ما العمـــــل؟
على الأمة أن تؤمن إيمانا راسخا بأن هذا “المخزون الإستراتيجي من الشباب هو نقطة الانطلاق وشرارة البداية على درب التحرر من قيود الاستبداد، وعليها الاقتناع بأن هذا الشباب هو جيل التمكين وليس جيل إثبات الذات. لقد بدأت غيوم الأفق المظلم تنقشع مع بداية هذا الربيع المبارك والذي كان الشباب محركه الأساس، ربيع حرر الشعوب من ربقة استبداد الأنظمة والأشخاص في انتظار انقضاضه على بقايا الاستبداد وجذوره العميقة في جسم الأمة ليتأهل للمهمة العظمى، ألا وهي إعادة قطار الأمة إلى سكته السليمة.
وجب إرجاع الشباب إلى مواقعه الريادية في صناعة التغيير المنشود، وتمكينه من أدواره المجتمعية التي بها فقط يكون للشباب تأثير في واقع الأمة، من أدوار الشباب المهمة التي لاغنى عن اضطلاعه بها:
ـ دوره الثقافي الفكري، فعلى عاتق الشباب تقع مسؤولية الاستيعاب العميق لثقافة التحرر من الاستبداد، وعليهم يتوقف التصدي لمهمة بثها في المجتمع وبين مختلف فئاته.
ـ دوره المجتمعي، فالمطلوب اليوم هو تغيير بنية المجتمع وإعادة صياغته صياغة جديدة حتى يصبح مجتمعا حقيقيا متماسكا ومتآخيا ومتحابا.
ـ دوره السياسي، فالمشكل السياسي في الأمة هو تغييب المجتمعات عن عملية الصراع على السلطة، ودور الشباب هو أن يسهم بقوة في تغيير المعادلة على نحو ما فعل في دول الربيع العربي.