لا باس ان يتكلم متكلم عن ضيق الارزاق و سوء الاخلاق في عصر التقدم التكنولوجي و منظمات السلام العالمي، لكن مما يجب بالضرورة ان ينظر الرائي الى عمق الامور و الغاية من وجودها حتى يتسنى له فهم الامور على اصولها و يتجنب السقوط في دوامة الصدمة الحضارية و الانبهار بمتغيرات العالم الجديد الاحادي القطب و يقع في القراءة مزدوجة المعايير بالمقارنة مع واقع “العالم الثالث”
اذا اردنا ان نعمق النظر وجدنا ان كل فلسفة تحدد القيم المحورية لمجتمعها و لذلك فهي حاسمة في تكوين هذا المجتمع على مستوى العلاقات الانسانية و علاقة الانسان في المجتمع مع العالم و الحياة، فتهيمن على الثقافة و تكيف العلم لتختزل نظرة المجتمع الى العالم المحيط به, و حين تكون هذه الفلسفة منقطعة عن المطلق او عن مصادر القيم بصفتها العقلية النسبية الارضية تفقد توازنها و تولد عاهات في النظر تقود الى انحراف العلم و تشويش ادراك الانسان لذاته و للحياة اي بمعنى اخر علاقاته الاجتماعية و تدبيره الاقتصادي و السياسي، مما يجعل من هذه الفلسفة قاتلة للنوع البشري عن طريق أبخرة العبث القاتلة
دائما ما كانت الفلسفة الديكارتية مرجعا لفلسفة ” الانوار”، الفكر الاوحد المحرر الذي يراه و يحس به المنتمون لعالم الجنوب بوقع مختلف حين يبصرون لونه الاحمر القاني يبسط سلطانه على لياليهم القاتمة، بحيث جعل من الاستعمار واجبا انسانيا تحرق مشاعله كل فكر مغاير, كما ختمت عصارة هذه الفلسفة في عصر ما بعد الحداثة بفلسفة “نيتشه” فلسفة القوة التي لا تربطها قيمة و عبرت عن حقيقة مكنونات الانسان “السوبرمان” الوحيد القادر على انقاذ العالم من مستنقع الافكار المغايرة لرؤيته الاحادية العين الغارقة في السافلين و التي لا تملك بديل لليبراليتها الجديدة الجذابة الموحشة المتناغمة مع الغريزة البشرية.
في عصرنا عصر التعتيم الفلسفي يتوقف الانسان عن التفكير العميق الذي ميزه دائما عن غيره من الكائنات حيث تستنزفه الملاهي ان كان ينتمي للشمال و الحرمان كفيل باستنزافه ان كان من اهل الجنوب، في الشمال يستهلكه الغذاء و الاعلام و التشتت و في الجنوب يستنزفه الفقر و الجوع و التعتيم كما يمنع قمعا عن التعبير فيما يفكر فيه عكس الاول التي لم يعد مسموحا له التفكير اصلا في القضايا الشمولية.
يسكن الامل في انسانية الانسان منطقة الجنوب على وجه الخصوص، لان مواطنيها أقرب الى السؤال الجوهري، بينما يخفي الغنى المادي لنظيره في الشمال بؤسه الخلقي و الروحي و مأساته الوجودية الرهيبة, و يكون التحدي هنا اكتشاف الهوة السحيقة بين العالمية دون ارتياب في ان الامر جزء من مراحل للتاريخ التي يظل تجاوزها محتوما وواقعا ان تم التسلح بقوة عاقلة و فكر متنور عابر للأعراق و الديانات و مستوى خطاب يستطيع ان يوقظ الارادة و الهمة في الامم لتتفلت من عقال الغريزة البشرية الجشعة المؤدية للهاوية و الافلاس العالمي اقتصاديا و بيئيا و قيميا ثم من الاستبداد و الفساد الجاثمين على نصف العالم الجنوبي . يكون الرهان في غالب الامر هنا على الفئة الواعية وعيا جادا واضحا و الفاضلة ارادة كما الفاعلة في ساحة الواقع فعلا متوافقا معه و غير المترفعة عنه.
يتلخص الاشكال على الاقل في فكرة أن الأزمة واحدة تتعدد في مظاهرها و اشكالاتها، و النتيجة ستكون في حالة استمر الوضع على ما هو عليه غير قادرة على التمييز بين غرقى السفينة الواحدة , لا يخفي ذلك عن العيان الا اعلام مؤمم في الشمال، و تعتيم قاتل في الجنوب و تكريس لواقع الذل و التخلف و الحاجة للحاق بالركب الثقافي الغربي عن طريق شراء سلعته المسمومة يدعم ذلك مستبدو هذا العالم و أصحاب المصالح حولهم.
لا فكاك من هذا الداء الا بتحررين متوازيين, تحرر على المستوى المحلي ابتداء من التربية و التعليم تهييئا للبنية النفسية و الاجتماعية للأفراد و تقويضا دعائم الاستبداد و الفساد بالتكتل الشعبي المؤطر, كما تحرر على المستوى العالمي دعما و مؤازرة للمظلومين و مدا لجسور التواصل و الحوار الحر المسالم بين الاعراق و الثقافات و الاديان تحت ضوء المشترك الانساني, و الامران متشابكان لا يكون احدهما الا مع الاخر ان تم الحفاظ على الهويات و التميز البشري الطبيعي و الانتقال السلس للعلوم النافعة التكنولوجية منها و الانسانية بغاية تصحيح اتجاه القاطرة التي تقود الانسانية لا اخراجها عن السكة, و بغاية ايجاد الانسان لمعناه قبلا و بعدا لما للأمر من إلحاحية لا مفر منها في خضم عمره المحدود مقارنة بما كان قبله و ما بعده؟!!
الطالب: محسن الإدريسي