استقبل الشعب المغربي الموسم الدراسي الجديد (موسم مدرسة المواطنة) على وقع صدمة قوية خلفت استياء وتذمرا كبيرين في نفسهم، تمثلت في إقحام المقررات الدراسية بنصوص عامية سيتم تدريسها للتلميذ في المرحلة الابتدائية، والأكثر من هذا إخلاء هذه المقررات وتجريدها من كل حياء وأدب.
وأنا أتصفح بعض الكتب المقررة لهذ السنة الدراسية وما جاء فيها صعقت صعقة كهربائية لما أوصلوا إليه تعليمنا الشامخ.
في ثنايا مقالي هذا سأنطلق من طرح تساؤلات جوهرية تكون بمثابة الباب أو المدخل لهذا الموضوع الشائك، هدفي من ذلك إطلاق صرخة قوية من صرخات غيور على لغة القرآن الكريم المشرفة، لا صرخة في واد. إن كان لمن يهمه الأمر قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
سأتناول في الأسطر القادمة موضوع السياسة اللغوية بالمغرب وأزمة المناهج الدراسية، محاولا تشخيصها، أهي أزمة تخطيط لغوي؟ أم أزمة مناهج دراسية؟ مع تقديم حلول ومقترحات عملية لتجاوزها، مستعينا بالله تعالى وممسكا بحبل من سبقني إلى هذا الموضوع من رجال العربية ونساءها الحاملين لواء أشرف اللغات وأعظمها. لكن قبل ذلك يحق لي أتساءل:
- ما مفهوم السياسة اللغوية؟ ما مفهوم التخطيط اللغوي؟ من يخطط؟ لمن يخطط؟ وكيف يخطط؟ هل يترجم التخطيط اللغوي السياسة اللغوية على أرض الواقع؟ هل يحترم الساسة والمخططون ومن تحت إمرتهم من الشعب والمجتمع النصوص الدستورية والتدابير اللغوية التي تحدد منزلة اللغة الرسمية في البلاد؟
- هل يخطط للغة في المجلات الحية في الدولة؟
- هل هناك إرادة سياسية حقيقية للتخطيط اللغة العربية؟ أم مجرد فرقعات كلامية ومناورات من أصحاب القرار؟
تعرف السياسة اللغوية بتلك الإجراءات التي تتخذها مؤسسات الدولة لمراقبة الوضع اللغوي والتحكم في مساره وضبط إيقاعه، وأشهر هذه الإجراءات وأقواها سن مواد دستورية وتشريعية موجهة لحركة التخطيط اللغوي في البلاد، ويعرف هذا الأخير بعمل منهجي ينظم مجموعة من الجهود المقصودة المصممة بصورة منسقة لإحداث تغيير في النظام اللغوي أو الاستعمال اللغوي، ويقصد إلى حل مشكلة لغوية قائمة باستقصاء البدائل لها.
يقول المفكر المغربي (المهدي المنجرة) رحمه الله: “لا توجد أي دولة في العالم انطلقت في المجال التكنولوجي دون الاعتماد على اللغة الأم”.
أنطلق من المقولة أعلاه لأقول إن مسألة الإصلاح اللغوي بالمغرب هي مسؤولية الدولة الأولى ودورها الرئيس، لتشخيص هذا الوضع وإيجاد حلول له عبر وضع سياسة لغوية يوازيها تخطيط لغوي يستهدف بالدرجة الأولى اللغة الأم أو اللغة الدستورية.
لا يخفى على أحد الفوضى اللغوية التي يعرفها المجتمع المغربي، وإنه لَأَمرٌ مقصود من أصحاب القرار الدعوة إلى العامية وطغيانها مع تنامي الظاهرة “العيوشية”. فواقع التخطيط اللغوي بالمغرب يرثى له نظرا لغياب وعدم وجود سياسة لغوية واضحة المعالم، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال في مسألة التأريخ للغة العربية في المغرب، فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر قطاع التعليم، نجد ونلمس غياب إرادة حقيقية لإصلاحه منذ الاستقلال الشكلي للمغرب، مرورا بمناظرة المعمورة سنة 1994 ومشروع إصلاح التعليم بإفران من العام نفسه، واللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم في العام نفسه، والميثاق الوطني للتربية والتكوين في عشريته 1999-2009، والمخطط الاستعجالي2009-2012، وصولا إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030.
محطات كان التعليم المغربيعلى موعد مع ويلات وصيحات الإصلاح المزعوم، الذي كلما طرق مسمارا من مساميرها الحديدية في نعشه أغمي عليه، هي تراكمات غير مدروسة لا هدف ولا جدوى منها عدا التخريب الممنهج والمقصود.
أضف إلى ذلك أزمة المناهج الدراسية التي تحاول الوزارة جاهدة وبكل ما أوتيت من قوة التقليص منها وإفراغها من محتواها الهادف، وإبداله بآخر تراه سبيلا لنجاة التلميذ وخلاصه إلى بر الهاوية. ثم إن الاستعجال في ترسيم الأمازيغية أمر ستكون له مخاطر تنتظره في المستقبل القريب، فوجود أكثر من وجود لغة دستورية أمر غير طبيعي اجتماعيا وسياسيا… إذ لا يمكن أن نجد بلدا في العالم تأسس على رأسين، إلا في مغرب المتناقضات والعجائب.
إن مسألة التخطيط اللغوي بالمغرب لا يجب أن تسند إلى من هب ودب أمثال “عيوش”، وإنما يجب أن تكون بيد مؤسسات متخصصة تعنى بهذا الأمر وفي مقدمتها الدولة والمؤسسات التربوية، أعلام اللسانيات التطبيقية، أصحاب القرار، المجلس الأعلى للتربية والتكوين، المجلس الوطني للغات الذي لايزال في غرفة الانتظار، وكل المهتمين والمتخصصين في مجال التخطيط دون إقصاء ولا تهميش.
انطلاقا وما سبق فإن الحديث عن المناهج الدراسية بالمغرب وأزمتها هو حديث عن غياب إرادة حقيقية من لدن أصحاب القرار وماسكي زمام الأمر، لإصلاح التعليم وجعله قاطرة التنمية.
“من أجل تعليم يحررنا وتنمية تفك رقابنا” رحم الله الأستاذ عبد السلام ياسين صاحب القولة، الذي كان له قصب السبق في تأليف ووضع المناهج الدراسية إلى جانب الأستاذ بوكماخ وثلة من العلماء الأغيار الذين كانوا مفخرة المغرب وحاملي لواء العربية الحسناء الرائعة الجمال.
إن إدراج العامية وإقحام نصوصها في الكتب المدرسة أَمْرٌ دُبِّرَ بالليل لإضعاف العربية على حساب لغة أجنبية وعاميات دارجة تفرق ولا توحد هدفها التفتيت اللغوي، كما أنه استهتار بمشاعر المغاربة ولغتهم الرسمية. وعليه فإن محاولة الدولة إقناعنا عبر بلاغاتها التوضيحية بأن أسباب إقحام العامية في المقررات الدراسية، هي أسباب بيداغوجية صرفة كمن يحاول إقناع إمام النحاة “سيبويه” بأنه هو من قتل البحر الميت.
أية بيداغوجية؟ وأية أسباب تتحدث عنها وزارتنا؟ صِرنا وأصبحنا أضحوكة العالم…
كان من الأولى والأجدر بك أيتها الوزارة العبقرية أن تُغْنِي صفحات الكتب المدرسية بسير أعلام التاريخ الإسلامي الحافل بالأمجاد والعطاءات، بدل التعريف بمغنيات لا أخلاق لهن وساهمن في تفقير الشعب المغربي وتبديد ثروته وماله فوق منصة موازين.
من المؤكد أن إثارة موضوع التجنيد الإجباري في وسط المجتمع المغربي وما رافقه من هالة إعلامية، لَزوبعة رملية وضعتها الدولة في أعين الشعب وحاولت إلهاءه لتمرير أخطر قانون يلغي مجانية ما تبقى من التعليم، وتطرق آخر مسمار في جسمه النحيف.
للعربية رب يحميها يا دعاة الفرانكفونية…
قال الإعلامي الشهير فيصل القاسم في مقال له بعنوان “متى يتعلم الحكام العرب اللغة العربية” يقول فيه:
“قلما تجد حاكما عربيا متمكنا من لغة الضاد أو محترما لها إلا من رحم ربي، فمعظمهم من قبيلة المفعولون بُهُو. فهذا يرفع المجهولَ وذاك يكسر المكسورَ وغيره يجر المفعولَ وآخرُ يكسِرُ الفاعلَ وذاك يضم الماضي وبعضهم يفتح المضارع، وكأن هناك مخططا عربيا رسميا لتكسير اللغة العربية والنصبِ عليها…”.
يضيف قائلا: “متى توقنون يا حكامنا الأعزاء أن هَيبتكم من هَيبة لغتكم؟ متى تعرفون أن اللغة المكَسَّرة التي أدمنتم على معاقرتها تسيء إلى مقامكم؟ ألا يقال إن اللغة وعاء الفكر؟ فأين الفكر إذا كان وعاؤه عندكم لغة معطوبة نحوا وإلقاء؟ وكيف يستطيع البعض أن يستوعب الاستراتيجية الكبرى وتشعبات السياسة والاقتصاد، إذا كان لا يقدر على استيعاب أحرف الجر والنصب والجزم؟ لماذا يتكلم بعضُكم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية ببراعة متناهية أحيانا دون أن يلحن بكلمة واحدة، بينما يلحن عندما ينتقل للتكلم بلغة الضاد…”.
ختاما إن تدبير التعدد اللغوي والاعتراف به كونه أصلا اجتماعيا إنسانيا، واللغة الجامعة باعتباره المفهوم المؤطر للتعددية والعدالة اللغوية، هو سبيل نحو تحقيق التخطيط اللغوي المنشود. ولا يمكن الحديث عن الاصلاح الشامل دون الحديث عن الاصلاح اللغوي الذي يستوجب وضع أسئلة ثلاثة والإجابة عنها: من يخطط؟ لمن يخطط؟ وكيف يخطط؟.
لحسن عيا
باحث ومدون مغربي