إن كل متأمل للتاريخ، معتبر لدروسه يعي جيدا محورية التعليم في بناء الأمم و رقيها الاجتماعي و الاقتصادي و الحفاظ على هويتها و ثقافتها، فكم من أمة صعدت من دركات الجهل و الأمية و التخلف إلى قمة الازدهار و الرفاهية عندما جعلت التعليم و إصلاحه مفتاحا لنهضتها. فالبارحة كنا نسمع عن إنجازات دول شرق أسيا التي ما لبتت تحطم الأرقام القياسية في معدلات النمو -الواحد تلو الأخر- و اليوم نشاهد ما تحققه تركيا هي الأخرى من تطور مدهش في جميع المجالات و غدا تلتحق دول أخرى كإثيوبيا الإفريقية و غيرها بالركب.
القاسم المشترك بين هذه الدول هو أنها أعطت للتعليم المكانة التي يستحقها ليس فقط في الخطابات الرسمية لزعمائها أو في دساتيرها المكتوبة أو حتى في قبب برلماناتها كما هو الحال عندنا، ولكنها وضعت خططا و برامجا و خصصت نسبا مهمة من ميزانياتها السنوية من أجل بناء المدارس و الجامعات و المعاهد العمومية و شجعت أبناء البوادي و الأسر الفقيرة على إرسال أبنائها إلى المدارس عن طريق إعطائهم تعويضات مالية و تقريب المدارس منهم، كما أعطت للأستاذ المكانة التي يستحقها داخل المجتمع وضمنت له العيش الكريم و الأهم من هذا كله أنها جعلت من التعليم وسيلة أساسية للحفاظ على هويتها و ثقافتها و نقلها إلى الأجيال الصاعدة عن طريق اعتماد لغتها الرسمية في مقرراتها الدراسية ، كل هذا و غيره مثل برهان صدق على سعي هذه الدول نحو تحقيق مصلحة شعوبها و جعلها في مصاف الأمم المتقدمة.
أما فيما يخص بلدنا الحبيب فالتعليم ليس سوى فأر تجارب يخضع لنزوات الدولة و سياساتها الكارثية التي لم تنتج سوى الفشل الذريع، فأر تجارب أنهكته الضربات التي كان و لا يزال يتلقاها الواحدة تلوى الأخرى مع كل برنامج إصلاحي يتم وضعه و مع كل قانون جديد يتم تبنيه، أخرها القانون الإطار رقم 51,71 الذي يهدف –و بشكل واضح- إلى الإجهاز على مجانية التعليم من جهة و على اللغة العربية من جهة ثانية.
فالحديث عن إجبارية دفع رسوم مقابل التعليم بالنسبة للأسر الميسورة -كما تشير بنود هذا القانون- يحمل في طياته الكثير من الغموض ما دامت المعايير التي تقسم على أساسها الأسر إلى ميسورة وفقيرة غير واضحة. هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن فكرة الدفع مقابل الحق في التعليم تعتبر من الأساس استفزازا واضحا لشعب مفقر يرى أموال بلده تشتت بين ما يصرف على بناء عواصم الدول الأفريقية ليل نهار و ما يسرقه لصوص النهار علانية بدون حسيب ولا رقيب فيما يبقى نصيبه منها الفتات، أما التناوب اللغوي الذي يتحدث عنه القانون الإطار فليس سوى شكل أخر من إشكال الحصار الذي يحاول الفرانكفونيون فرضه على اللغة العربية في شتى المجالات و التي يعتبر التعليم واحدا منها .
و خلاصة القول أن هذا القانون و ما يحمله في طياته من سموم تهدد صحة التعليم المتهالكة أصلا، يمثل دليلا اخر على أن جوهر المشكل عندنا يكمن في انعدام إرادة حقيقة لإصلاح التعليم في المغرب و الذي يراد له أن يبقى هكذا، وسيلة أخرى من وسائل حلب الشعب الفقير و أداة لتخريج أجيال ممسوخة الهوية و مسلوبة الإرادة اغتيل حاضرها و مستقبلها باغتيال التعليم.
بقلم: يونس بنجهد