يقول سقراط “اعرف نفسك”.
في محاولة لفهم البنية الكامنة في عبارة سقراط،ومقصده، ومدى قربه من مفهوم “الفطرة” الموجود في دين الإسلام الذي أدين به، إذ أعتقد أنه من خلال معرفة النفس نهتدي إلى الفطرة، ذلك النموذج الأولي الذي نرجع إليه عندما يحدث هنالك انحراف، عن هذه الفطرة، والذي يترتب عليه انحراف عن إنسانية الإنسان، الأمر الذي قادني مرة الأخرى إلى صدام مع مفهوم الطبيعة البشرية فهل هي الفطرة الأولى التي ولدنا عليها، وهل هي ما كان يقصد سقراط بمحاولة معرفة النفس؟ لأنه عندما يقول اعرف نفسك فهذا يعني أننا نعرف الشيء القليل عن هذه النفس، وأننا نجهل الشيء الكثير، ومن ثم تكون معرفة النفس مدخلا إلى العودة إلى الفطرة، وعودة إلى الطبيعة البشرية، وإن كنت صراحة لا أدري هل توجد حقا طبيعة بشرية، صدقا إنني في حيرة، لأن هذه الطبيعة تجدها متغيرة من أمة إلى أمة، من بلد إلى بلد، من شعب إلى شعب، من قبيلة إلى قبيلة، وهكذا وصولا إلى الفرد، ومن ثم يكون الرجوع إلى الوراء. فبناء على الخصوصية المحلية تكون الطبيعة البشرية، وهي بهذا في الحقيقة طبيعة تنطلق من الثقافة الخاصة التي تعد نمطا سائدا في الرقعة الجغرافية الذي يوجد فيها الفرد، فأنا كفرد، أسلوب تفكيري، وشعوري وإحساسي، نتاج محيطي وبيئتي التي عملت على ما أنا أصبحت عليه الآن، وفي مرحلة من المراحل وعيت بأني هذا النتاج وحاولت الدخول في عملية التجاوز لواقعي هذا، ربما ليس بالطريقة الديكارتية ومراحلها الطويلة، لكني تعلمت أني كائن ثنائي ومركب لا ينطبق علي القانون الطبيعي المادي، مهما حاولت الأطروحات الفلسفية المادية إيهامي بذلك، الطبيعة المادية شيء وأنا إنسان، لكن وفي حالة ما لم أتجاوز عالم الحواس المادي، وبالمفهوم القرآني أقتحم العقبة، وقعت في التشيء فصرت واحديا مبسطا، لكني أتمتع بالخيار، هذا الأخير لا يملكه الحيوان، ولا النبات (على حد علمي). وما أريد أن أقول أن فعل التجاوز هو بطريقة أو بأخرى محاولة مسبقة لمعرفة هذه النفس من أجل تطويعها لفعل هذا التجاوز، وللعودة إلى الفطرة بعد انحراف بسبب الرواسب والشوائب التي اكتسبتها من محيطي وأثرت فيا، والتي لا تنتهي. الإشكال الذي أحاول معالجته هنا ينطلق من أرضية خصوصية الطبيعة البشرية في مواجهة التقنية والتطور التكنولوجي الذي يعمل من وجه آخر على تقويضها والقضاء عليها، شيئا فشيئا، إنه عبارة عن وقوف على السؤال المعنون ب “أبي وأمي لماذا نحن هكذا؟”، اللذين هما في هذا السياق أجدادي الذين ساهموا بطريقة أو بأخرى في تكويني، ولأكون أكثر تحديدا الوسط والبيئة بفعل العادات والتقاليد، والأعراف، والثقافة عبر التاريخ، ومن أجدادي هؤلاء إلى أجدادي في الإنسانية جمعاء. إنني بمعنى آخر أخاطب الماضي وسكان الماضي من خلال أبي وأمي ورمزيتهما، وآبائكم وأمهاتكم، وكل الفاعلين في محيطكم الذين ساهموا في إنتاجكم على مستويات عدة، أتسائل وكلي قلق عن ما الذي تغير؟ ولماذا؟ وكيف؟ وكلي في نفس الوقت أسف وشفقة على الأجيال الناشئة أمام أعيننا، لأنها ومما لا شك فيه أن تنشئتها تختلف الشيء الكثير عن تنشئتنا ( نتيجة زحف التقنية إلى العالم الخاص بشكل كبير)، كما كانت هذه الأخيرة مختلفة عن سابقتها، ولن أدخل في صيرورة تاريخية ورائية أجلد فيها الجيل المتقدم وأمجد الجيل المتأخر، قلت هذه الأجيال التي تنشئ منفصلة عن محيطها بفعل دخول التقنية (التحديث) إلى ما هو خاص، بما تحمله الخصوصية من معنى، وهنا لا أسقط مسألة أنها لا تفعل ذلك لنا نحن الذي بدأنا بداية شبه طبيعية شبه تقنية، أنا أستحضر هذا، وأشفق على نفسي وعلى غيري من أبناء جيلي، لكني أفرق بين أن يعاني الفرد من مظاهر التحديث بعد أن ينشئ ويتأثر من محيطه بطريقة طبيعية –ولو نسبيا- ( فنحن كبرنا والتلفاز موجود، كبرنا على سبايستون، عهد الأصدقاء، والقناص، والكابتن ماجد وغير ذلك ) وبين أن تكون عملية التنشئة متداخلة مع مظاهر التحديث، ولأتقدم قليلا، وعلى أرضية أستحضر فيها تدخل التحديث والتقنية في حياتنا الخاصة سواء في حياة أطفال اليوم، أو حياتنا نحن، وكذا تدخلها في محيطنا الطبيعي المادي، حيث الطبيعة، وأثرها الخطير عليها، والذي هو خطر في آخره على الوجود الإنساني على هذه الأرض، ووجود باقي الكائنات، وإن كنت أبتغي التركيز على خطرها علينا كأفراد، فالبنية الكامنة في كلامي هذا هو دعوة إلى التمرد على الواقع الذي تؤسسه التقنية، لكن لا بأس أن نشير إلى تعدي التحديث على الطبيعة، والفاعل فيها ويا للعجب ! الإنسان، الذي يحفر قبره، ( ألم تعمل الحضارة الغربية على حفر قبر كبير لنا جميعا كما يعبر روجي جارودي؟). فهو الذي خلق هذا التحديث، ووظفه لخدمة مصالحه، خاصة الإنسان الأبيض الغربي، الذي نهب خيراتنا نحن سكان العالم الثالث، ليصبح بلده ما أصبح عليه، فغدا يصنف العباد إلى تصنيفات تقوم على معيار التنمية ومدى حجمها ، إن مع توالي عملية التحديث ما بعد الثورة الصناعية تقريبا، ساهم في استغلال غير معقلن للموارد الطبيعية من طرف حضارة العقل، ولكنه الجشع، جشع الكائن الاستهلاكي، الذي غدا عليه الإنسان الغربي، أما الإنسان الشرقي فهو سائر في ذاك الطريق إلى حد كبير، على مستوى الاستهلاك وليس النهب، بفعل العولمة التي ترمي إلى جعل العالم وجعلنا مادة استعمالية في سوق كبير ونحن المشترون، نحن المستهدفون سواء أردنا ذلك أم لا، (عبد الوهاب المسيري يتكلم عن كون الإعلانات في القنوات الفضائية هي محاولة لسرقة لحظة من حياتنا بدون إرادتنا ووضعنا في ال
سوق حتى في منازلنا)، نحن المستهدفون من طرف الإعلانات والذي يترتب عليها الشراء، أكان هذا الشراء لشيء يأكل مثل مكدونالز، أو سروال جينز، أو حذاء زارا وغير ذلك، فكلما ارتفع الطلب زاد الإنتاج، إنتاج المواد على حساب الطبيعة وعن طريق استغلالها مدخلا، ورمي النفايات بسبب عدم إمكانية التدوير نتيجة، فكانت الأزمة البيئية وكان الاحتباس الحراري، وكان ثقب الأوزون والذوبان الجليدي التي يترتب عليه ارتفاع منسوب المياه وكثرة الفيضانات، والخلل في النظام البيئي، هذا على مستوى الطبيعة. أنما نحن فمع كوننا أصبحنا بهذا الاعتبار مادة مستعملة، كثرت الأمراض وكثرت مسميات مرض السرطان بسبب المواد المحافظة التي نأكلها، والتي غزتنا لنشبع شرهنا الناتج عن سحر الإعلان، فبالتالي تنخر أجسادنا وتدخلنا في موت بطيئ، هذا الجشع يظهر لنا جليا في أبشع أشكاله في خلق أمراض وأوبئة قاتلة مع خلق دواء لها، ومن ثم تصديرها إلينا، دائما إلى العالم الدوني، من أجل المصالح اقتصادية عن طريق بيع الدواء، عندما ينفصل العلم عن القيمة الأخلاقية تغيب القيمة الإنسانية وتحضر القيمة المكيافلية، فالغاية دائما تبرر الوسيلة، ومن تصدير الأمراض إلى تصدير الأسلحة، فبعد الحربين العالمتين، بعد إلقاء قنبلة هيروشيما نكازاكي، وبعد أن لاحظ الإنسان الغربي أن مثل هكذا حروب تستنزف الطاقات البشرية والموارد، وتدمر البنيات التحتية لعالمه، جاء زمن الحرب بالوكالة، وجاء زمان خلق حروب بعيدة عن المنطقة، تجني فيها الدول الغربية الشيء الكثير عن طريق بيع الأسلحة. طبعا لن أنسى بهذا العراق، وليبيا، أفغانستان، وغير ذلك، فتلك وصمة عار في جبينهم، لأن شعارات حفظ السلام ومحاربة الإرهاب أثبتت الممارسة العملية زيفها، وزهق الباطل، وظهر الحق الذي لم تكن سوى من أجل آبار النفط، ولن أنسى أيضا التسابق إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل القادرة على تدمير الأرض مرات، ولم أتكلم عن التلاعب بالجينات الوراثية، وعدد وافيات الدلافين بسبب انتحارهم عن طريق أثر موجات الغواصات، وغير ذلك من أفعال هذا التحديث والتقدم نحو المجهول، حتف البشرية، وهو الذي يعود إلى فعل الإنسان، خاصة الإنسان الغربي الذي يملك مركز القرار والذي يتحمل الشيء الكثير في هذا. وأنا هنا لا أحاول إعطاء حقائق عن هذا النموذج السائد لتأسيس نموذج بديل على المستوى الموضوعي، فكما بينت أنني لا أعالج هذا الأخير وإن كان هنالك شيء من التأثر والتأثير بين الفرد المسيطر والمسيطر عليه والمحيط، ومن ثم كل هذه الأخطار يمكن إدخالها كمقدمات للواقع المجهول الذي نسير إليه، وتسير إليه الأجيال القادمة على وجه الخصوص، لأنها أقرب من هذا الواقع منا، وإن كنا لا نتسرع في الجزم بذلك، فقد نعايش نحن تلك النتيجة الكارثية والتي هي أشد وطئة من النتائج ا
لتي نعيشها الآن، هذا على المستوى الجماعي، نحن والكائنات الأخرى وكوكب الأرض، وفي محاولة للانتقال من العام الموضوعي إلى الخاص الذاتي بغية الدخول في صلب الموضوع، وعودة إلى موضوع التقنية والتكنولوجيا وزحفهما إلى حياتنا الخاصة، حيث أصبحت الآلة هي من توظفنا، لا نحن من نوظف الآلة، الأمر الذي ترتب عن ذلك عدة آثار.
لقد لعبت التقنية الشيء الكثير في تسهيل ما صعُب في حياتنا، خاصة على مستوى التواصل والمواصلات، فأصبح بالإمكان أن يتواصل الابن الموجود في أقصى الغرب بأمه المتواجدة في أدنى الشرق، صوتا وصورة، وكأنها موجدة أمامه، وأصبح بإمكان المُحِب أن يرسل رسالة إلى حبيبته في ظرف أجزاء من الثانية بينما كان سابقا يعتمد على الحمامِ، ساعي البريد وغير ذلك من الطرق، وما يترتب عن ذلك من طول مدة الاستلام وطول الرد، فقُل ساعات وقُل أيام وقُل أسابيع، وربما حتى شهور، فالأمر يخضع لاعتبار المسافة الجغرافية بين الطرفين، وأصبح الآن بإمكاننا سماعُ ما شئنا من أغاني وفيديوهات، بينما كان سابقا، فقط قبل أربعِ أو خمس عقود من الآن، تستيقظ في وقت معين لتستمع إلى أم كلثوم أو فيروز، وقد رفعت أيضا من منسوب الوعي لدى الشعوب بواقعها المعاش، ولعل ما يسمى بالربيع العربي ودور وسائل التواصل في ذلكم الحراكات الاجتماعية التي عاشتها المنطقة، خلفت سقوط أنظمة وطلوع أخرى مثالٌ جيد للوقوف على حجم هذا الدور، ناهيك عن خلق إعلام بديل يعري الواقع المعاش الذي لطالما زيفته وسائل الاعلام الرسمية للأنظمة الفاشية، والتي كانت تحتكرُ المعلومة . لكنها وإلى جانب كل هذا وغير ذلك من إيجابيات استفادت منها البشرية خلقت لنا أشكالا جديدة من العلاقات، والتي حلت -إلى حد ما- بديلة عن العلاقات الإنسانية، هذه التي من المفروض أن تعمل القنية على تسهيلها وتقريبها، فغدا قرب البعيد بعدا للقريب، وحلت مظاهر جديدة في وسطنا الخاص بين العائلة والأصدقاء … ووسطنا العام في علاقاتنا مع الطبيعة الموضوعية وآثارنا البشرية، بل تعدى الأمر إلى العالم الافتراضي الذي يتميز بالتدفق المعلوماتي وغير ذلك، ومن ثم سأعرض بعض التحولات على شكل فقرات صغيرة أنطلق فيه من نموذج إدراكي لواقعي لأرصد ملامح التحول، وأبين ما الذي تغير.
1- الجلسة مع العائلة ( الانفصال عن اللحظة التراحمية )
أذكرُ لما كنتُ صغيرا وأنا أنتظرُ العيد وكذا المناسبات التي تحضرُ فيها الفرحة الممزوجة بجوٍّ تراحمي بين العائلة المجتمعة في بيت الجدّ والجدة، كنّا كصغار نلعبُ ونضحك، وأحيانا نبكي عندما يتحول اللعب إلى شجار (مشاكسة طفولية)، نعودُ بعدها إلى التصالح، أما دونَ المناسبات فكانت لنا مواعد نلتقي فيها هناك، في نفس البيت، لنفس السبب، وليتولد نفس الإحساس، إن الأخير لازال في وجداني مثل بصمةً تُذكرني بطفولتي، تلك التي أستطيعُ من خلالها التأكد من أنني عشتُها حقاً، وعلى العموم لا أريد تحويل ذاتي في هذا المقال إلى موضوع، يبقَى قصدي هو توضيح المفارقة بين ماضينا ذاك وبين حاضرنا الآني، هذا الحاضر الذِي وباعتراف الكثير فقد معناهُ في الأعياد والمناسبات والأفراح، وأصبح الجوُّ ذو الطابع التراحمي إلى آخر حلت الآلة والمشاعر الالكترونية مكانه، ربما قد يحدثُ اجتماع العائلة، وقد تحضر الفرحة اللحظية التي لا تتعدى عتبة المباركة بالمناسبة والتقبيل، ومن ثَمّ كلٌّ ينفصل عن لحظته المادية التي ينتظر منها التواصل -الذي يأمرننا به ديننا- ويسير بواسطة هاتفه إلى عوالم افتراضية يتواصل فيها الفرد تواصلاً قد يكون إنسانيا (مع الغير) لكنه ممكنن، وتبقى الجدةُ، ويبقَى كل من لا يعرفُ أصلاً ولا فصلاً لهذه العوالم ومداخلها (التقنية) يشاهدون، ويتأملونَ في وجوه أفرادٍ انفصلوا عن واقعهم، واتصلوا بواقع غير موجود.
2- الجلسة مع الأصدقاء ( الانفصال والسلفي )
عادة يَكون الأصدقاء بمكانة الإخوة، فالعلاقة التي تجمعهم في الحياة العامة مثل الدارسة والعمل بمثابة مدخل ينتقلُ فيه الفرد من علاقات رسمية إلى علاقات أكثر خصوصية، إنها قفزةٌ من الحياة العامة إلى الحياة الخاصة، في مرحلة متطورة حيثُ يجد فيها راحتهُ مع أفرادٍ من خارجِ مؤسسة الأسرة، ومن ثمَّ لا أبالغُ إن قلتُ أن حِبال الصداقة أحياناً تتجاوز حبالَ الأخوة التي تقومُ على أساس صِلة القرابة والدم، وأنا هنا لا أسقُط مسألة إمكانية أن تكونَ الصداقة بين فردينِ تجمعهما أسرة واحدة وسقف واحد، لكنني أتكلم بصفةٍ عامة، إن مع الأصدقاء يقضي الإنسان جلَّ وقته خارجا، ويعيشُ معهم اللحظة بما تحمه من معنى في إطار مكانِي مادي وخط زمنِي يتوقف عند نقطة الافتراق، لحظة وجدانية جميلة وشعور لا يوصف، لكن ما الذي تغير عندما طغت التقنية على حياتنا الخاصة؟ وهنا أتكلم عن مظهر من المظاهر الذي أعتقد أنه ساد في الآونة الأخيرة بشكل كبير ( فقد عايشتها إلى وقت قريب مرات ومرات، ولاحظتها )، لقد أصبح الأصدقاء يلتقون ليجمعهم الإطار المكاني المادي، يلتقونَ كأجساد، أما على مستوى الإدراكِ فإنهم يحلقونَ في عوالم غير مادية غير موضوعية، تلك العوالم التي أنتجتها التقنية فرجعت منهم مادة مستعملة، لا يستشعرونَ بقداسة اللحظة التي من المفترض أن تُعاش آنيا وبشكل مباشر وفي جو من الصداقة، وتكونُ النهاية صورة «سيلفي» مستهلكة متبوعة بكلمات مبتذلة لا تُعبّر عن الحالة الموضوعة فيها أصحابها، لو جدلاً قلنا أن الكلمات تتحدث عن ( الالتقاء/الترابط/السعادة/الجمال … ) وتزيدُ الصورةُ تأكيدا بشكل منسجم، قال الواقع مكذبا وتكلمت الحقيقة قائلتا : (الفرقة/التفكك/الاستهلاك/الابتذال) وكانت الصورة في الواقع مادة استعمالية مصطنعة. وأنا هنا لستُ ضد استعمال التقنية وأرشفتها اللحظة في لحظة من اللحظات، لكن بعد تقديس اللحظة ومعايشتها.
3- الطبيعةُ الموضوعية واللَّقطة البديلة
خَلق الله الطبيعة المادية، فأبدعَ في خلقِ كل شيء، من أصغر شيء في الكونِ إلى أكبره، فترى الجبال وكأنها جامدة، لكنها تسير مرّ السحاب، وترى الأنهار والشلالات والبحير
ات، ترى البراكين تخمدُ تارةً وتفورُ تارة أخرى، وترى الغابات بأشجارها ونباتها وغير ذلك، فهي صنعة الله الذي أحسن كل شيء، و
خلق الإنسان، الظاهرة الاستثنائية، الذي يمتلك وُجدانا ينضب يميزه عن باقي الكائنات، والذي يخلق الحالة التي تخضعُ إعجابا إجلالا أمام كل ما هو جميل، لدرجةِ أنه في لحظة من لحظات التاريخِ (ولازال في بعد المناطقِ إلى الآن) أله الطبيعة (الطوطمية) وعبدها لسحرها وجمالها، وبعدها خَلق قرى ومدناً عبر هذا التاريخِ وبنى فيها معالم لازالت إلى الآن شاهدةً على جمالية وجدانِ هذا الإنسان، فهل أتحدثُ عن معابدِ الأنتيك والمايا أم تماثل آلهةِ قبائل أفريقيا، أم عن مدينة بابل أو أثينا وما فيها، أم عن روما وقوس النصر، أم عن الأندلس وجمال مدنها، وعن البندقية وسيينا، عن إبداع عصر النهضة وعن تماثيلِ مايكل أنجلو، وعن رسوماتِ دافنشي وغير ذلك. أمام الإبداع الرباني والأثرِ الإنساني يَجِبُ أن يقف الفرد اعجاباً واجلالا، وتمتعا، يَجِبُ أن يدخل في تفاعل مع اللحظة التي ربطته مع الطبيعة الموضوعية وما حملتهُ مما سبق ذكرهُ وقد غابَ الكثير ، فيدخل في عملية التأمل في صناعة الخالق ليصل إلى حقيقة ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)، وفِي
صناعة الإنسان ليتأكد من استثنائيته في الكون، فهو الكائن المركب الذي لا يخضعُ للقانون المادي كما قلنا، لكن ما يلاحظ أن الأمر أخد منحاً مغايراً مع دخولِ التقنية، فقد أصبح همُّ الفرد أمام الإبداعين هو الدخولُ في أكبر عدد من اللقطات، والتي طغت على اللحظات الطبيعية في تفاعله معها، والتي تولد مشاعر وأحاسيس وجدانية مطلقة لا توصف، قد ينجح الفن في التعبير عنها إلى حد ما، وهنا أنا لا أحاول إسقاط فعل اللقطة ومشاركتها مع الغير في عوالم التقنية، لأني أعيي جيداً أن الأخيرة دخلت حياتنا الخاصة بدونِ طرق للباب، واستقبلناها بصدر رحب، في لحظة من اللحظات، لكن أن تطغى اللقطةُ على اللحظة فتلك حالة لا أفهمها . ( قضيتُ عطلةً في بحر من البحورِ الجميلة في وطني، وأنا في لحظة اتصال مع جمالية هذا البحر الأزرق المفتوح، والجبال البيضاء التي حوله، كانَ قربي مجموعة من الأفراد قضوا جُلَّ وقتهم في التقاط الصور، أجزم أن عدد الصور تكفي لكل زاوية من زوايا الإطار الموضوعي المادي، فزاد ذلك من بلورت النموذج الإدراكي عندي. )
4- تدفق المعطيات وتقَوّض الحس الإنساني التضامني :
لما أصبح العالمُ الكبير قريةً صغيرة، سهُل على الإنسان إيجاد المعلومة، بل أصبحَ هو مستهدفاً من طرف المعلومة، لقد أصبحت المعلومة تتدفق من كلِّ صوب وحدب، فالفردُ ي
ستطيع أن يتفاعل مع عشرات الأحداث من داخل مدينته، ثم إقليمه، ثم جهته، ثم وطنه، ثم قارته فالعالم، كم مُهول من المعطياتِ التي لا تنتهي والأخبار الذي لا تنقضي، هذا الأمر الذي عمل على فقدانِ الإحساس بالأحداث، خاصة التي تتحدثُ عن وقائع غير إنسانية ( إعدامات، قصف بالكيماوي، اختطاف، تعذيب، قتل، إبادة … ) إن الإنسان الذي يتفاعلُ مع هذه الوقائع كل يوم يفقد حسُّه التضامني بفعل التكرار الذي يُنمطُّ النظرة ذات البعد الإنساني للأحداث، لقد عملت التقنية ع
لى «رَقْمَنتِ» مشاعرنا، فغدا التفاعلُ في غالبِ الأحيان يقومُ بدفعٍ من «البروبغندا» الإعلامية ( بفعلِ جهة رمادية ما )، فإذا أصبح الفردُ على خبر من الأخبار والذي تصادف أنه تم نشره من طرف مجموعة من أصدقائه، بحيث أنه لا يجد إلا هو في كل مكان، أذعنَ هو الآخر للكتابة والنشر حوله، لأن العقلية الاستهلاكية تفرضُ عليه ذلك بدون وعي أو إرادة. ولعل هذه الواقعة تزيدُ من فهمنا إلى هذه الظاهرة، ( شهد المغرب السنة الماضية في منطقة تدعى الريف حراكاً اجتماعيا يطالب بمجموعة من المطالَب العادلة والمشروعة، وبعد شهور من الاحتجاجات استنفذت الدولة المغربية كل أوراقها، وبقيت ورقة المقاربة الأمنية والاعتقال السياسي، فاعتقل المئات من الناس، الأمر الذي خلف موجةً من الغضب سواء على مستوى الشارع المغربي واستمر الحال في وسائل التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي، الأمر الذي سيدفع النظام إلى خلق حدثٍ يغطي على حدثِ الاعتقال، وقد كان بخلق فضيحة أحد لأحد رؤساء الجماعات في منطقة نائية، عن طريق القبض عليه وبحوزته 17 مليار سنتيم مغربي، ونشرها على نطاق واسع، فتحول الحديث من حديث على الاعتقالات إلى حديث عن الفضيحة، وقد وأكل الشعب المغربي الغاضب الطعم و نجح النظام في امتصاص خصوصية الحدث الغير حقوقي ).
5- «فِيديوهات» منفصلة عن القيمة الأخلاقية
مع كثرتِ عدد الصُّحف والمجلات الالكترونية، تعددت مواضيع تعمل على خلقها وطلب رأي الناس فيها، رأي العامة، ومن ثمَّ بما أن العديد من الناس غير مستأنسين بثقافةِ إبداء الرأي من خلف الكاميرا، حضر التلعثم، والقراءة السطحية، والإجابات الركيكة المتسقة مع المنظومة المعرفية للإنسان العامي. الإشكال ليس هنا، إنما في ظهور نوع من الفيديوهات المعدلة (بالمونتاج) ، تعملُ على جمع مثل هكذا لقطات مع إدخال لقطات ساخرة بعد كل لقطة من اللقطات المقطوعة، التي أصبحت مادة خامة. وهنا نتساءل عن حق المنتجِين لهذه الفيديوهات بنشر لقطاتٍ إنسان يحمل اسما، وهوية، إدراكا ومشاعر ليُضحكَ به غيره من بني الإنسان؟ هل يملك هذا الحق؟ ومن أعطاه ذلك؟ إننا هنا نلاحظ مسألة في غاية الخطورة، وهي تكمن في تغييب القيمة الأخلاقية وحضور النزعة الاستهلاكية المستعملة، تلك التي تنشد في حالتنا ربح أكبر عدد من التفاعل والنشر قصد الرفع من عدد المتابعين في القناة والصفحة والموقع، وقد تبلور عندي هذا الإدراك بخطورة هذه الظاهرة بشكل كبير في هذه الحالة : ( يعرف المغرب موجة جديدة ونوعية من الاحتجاج، وذلك بخلقِ آليات جديدة تقوم على الانطلاق من العالم الافتراضي للتأثير بالواقع المادي المباشر، وذلك عن طريق حملة مقاطعة بعض المنتجات، هذه الحملة التي نجحت إلى حد كبير، تعدت المنتجات إلى مقاطعة مهرجان موازين، وهو مهرجان موسيقي، في مجموعة من المدن، إلا أنه في بعض الحالات لم تنجح عملية المقاطعة، فكان الحضور، فتحركت بعض الصفحات الرسمية إلى الضرب في نجاح المقاطعة عن طرق إعداد تقارير مصورة للسهرات وتصوير تصريحات الجمهور الحاضر، ولأن الجمهور من العامة، كانت الفيديوهات المنفصلة عن القيمة الأخلاقية حاضرة كالعادة، وعملت على خلق فيديوهات ساخرة إلى حد كبير تشفي غليل كل مقاطع، لدرجة أني لما شاهدت بعضها ضحكتُ الشيء الكثير، لكن بعد ذلك بلحظات، تساءلت من أعطى لي الحق لأضحك؟ ومن أعطى لمنتج الفيديو إضحاك الناس بالناس؟ وتساءلت عن مشاعر من في الفيديو الآن؟ فتأسفت على حالتي التي أصبحتُ ( أصبحنا ) عليها من داخل تلك اللحظة.
– ما العمل؟
إن ما تم ذكره من مظاهر أثر التقنية في علاقاتنا بين العائلة والأصدقاء، والطبيعة، وفي وجودنا على مستوى العالم الافتراضي لقليل من فيض من المظاهر التي تشكلت لتصبح نمطا سائدا نعيشه ونلاحظه. إن الجواب عن ما العمل؟ لا يعني بالضرورة وجود خطوة قادمة، أقصد خطوة مباشرة تتجلى في الانقطاع عن التقنية وعوالمها، فذاك شيء أحسبه مستحيلا على المستوى الكلي، كل الناس، وقد تنجح على المستوى الجزئي، أفرادا من الناس، والذي سيحرمون من إيجابياتها العديدة بسبب سلبياتها الكثيرة، وعلى العموم أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال يتطلب بادئ ذي بدء ملاحظة لأثر التقنية على حياة الفرد، أن ينطلق الفرد من ذاته ويعمل على تقييم حياته، تلك التي تنبني على مجموعة من العلاقات الخاصة والعامة، وبعد ذلك يعمل على التمركز حول “اللحظة المقدسة”، سواء أكانت مع العائلة عن طريق الابتعاد قدر الإمكان من التقنية والانفراد بتلك اللحظات معهم، وسماع كلاهم البسيط والتأمل في وجوههم، والاستشعار بالجو التراحمي الإنساني الذي يخلف ذلك، نفس الأمر ينطبق مع الأصدقاء، وليس من المانع أن يتم التقاط الصور الموثقة لتلك اللحظات الجميلة التي عايشها معهم بعد طول غياب، دام بينهم، أو أي كان، لكن بعد أن يعيش اللحظة حقا، لتكون الصورة نتيجة للحظة، لا العكس. أما الجمال الموضوعي، من خلق الله، والأثر الإنساني، فالأمر يتطلب ممارسة مغايرة، إنه يتطلب التأمل والتفكر في الإبداع، لأن قلب الإنسان يعشق كل ما هو جميل ( هكذا غنت أم كلثوم )، للوقوف على عظمة الخالق، وعلى استثنائية الإنسان المخلوق، الذي نفخ فيه من روح الخالق. واستمرارا في الحالة الأخيرة، لابد للإنسان أن يكون له لحظات يرجع فيها إلى نفسه مبتعدا عن كل شيء، من أجل الانفصال عن اللحظة كما يعبر عبد الوهاب المسيري، وهي الحالة التي ينفصل فيها الإنسان عن واقع المادي ( والافتراضي) المفروض من أجل الدخول في عملية تفكير حول النموذج والمثل العليا وعمل المقارنات من أجل التقريب بينها وبين الواقع، حتى يستطيع تحقيق التوازن ويحافظ على إنسانيته وحسه الإنساني التضامني، الذي أصبح مهددا بفعل كثرة تدفق المعطيات والأخبار والأحداث .
وفي الأخير، لا أدري الصراحة هل النزعة الاستهلاكية ( التي جعلت منا نكتبُ من أجل الكتابة : خاصة في برامج كتويتر والفايسبوك ) لها دورٌ في كتابتي لهذا المقال، حسنا لا أظن هذا، وكل ما أعرفُ أنني أعيش تلك الحالة ( ما بعد ملاحظة واقعي، القلق ومحاولة التمرد )، أشعر بحالتي هناك في أعماق وجداني، وأحسُّ بها، ويوما على يوم أدركُ خطورةَ التحديث، التقنية على حياتنا وعلى إنسانيتنا.
بقلم : ياسر الخياط